بقلم المهندس/ طارق بدراوى تعتبر مطبعة بولاق أو المطبعة الأميرية أول مطبعة رسمية حكومية يتم إنشاؤها على الإطلاق في مصر لكي تقيم أسس صناعة للطباعة وتعمل على إحداث نقلة ليست نوعية فحسب بل نقلة كمية ومعرفية للعلم في المنطقة العربية بأسرها وقد أنشأها محمد علي باشا في عام 1820م كما هو ثابت باللوحة التذكارية لتأسيس للمطبعة التي هي عبارة عن قطعة من الرخام طولها 110 سنتيمترات وعرضها 55 سنتيمترًا وقد نقشت بحيث برزت عليها الأبيات الشعرية باللغة التركية وترجمتها إن خديوي مصر الحالي محمد علي فخر الدين والدولة وصاحب المنح العظيمة قد زادت مآثره الجليلة التي لا تعد بإنشاء دار الطباعة العامرة وظهرت للجميع بشكلها البهيج البديع وقد قال الشاعر سعيد إن دار الطباعة هي مصدر الفن الصحيح هذا ولم يتم إنشاء مطبعة بولاق بمفردها مستقلة عن بقية مشروعـات محمد علي بل كانت جزءا هاما وأساسيا من مشروع تنموي كبير وكانت كأي مؤسسة أخرى من مؤسساته يرجى منها أن تساهم بإنجاح جانب من ذلك المشروع التنموي الكبير حيث كان محمد علي قد إستهل حكمه بإنشاء جيش نظامي يحكم به سلطته على البلاد ولما كان لابد لهذا الجيش من كتب يتعلم من خلالها التقنيات والخطط الحربية بالإضافة إلى أنواع الأسلحة المختلفة وقوانين تحدد واجبات أفراده ضباطا وجنودا فلذا ظهرت الحاجة الملحة لإنشاء مطبعة لطباعة ما يستلزم من كتب قوانين وتعليمات للجيش .
وقد بدأ محمد علي بالتفكير في إدخال فن الطباعة إلى مصر منذ عام 18155م حينما أرسل أول بعثة رسمية إلى مدينة ميلانو في إيطاليا برئاسة نيقولا المسابكي لتعلم فن الطباعة وحينما عاد نيقولا من بعثته كان قادرًا على تشييد أول مطبعة حكومية رسمية في مصر وقد تم البدء في إقامة بناء المطبعة في عام 1235 هجرية الموافق عام 1820م في جزء من مساحة الترسانة البحرية في الجزء الممتد على ضفة النيل الشرقية بحي بولاق ولم يأت شهر ذو الحجة من سنة 1235 هجرية الموافق شهر سبتمبر عام 1820م أى في مدة أقل من عام واحد إلا وكان بناء المطبعة قد تم تشييده أما تركيب الآلات ووضعها في أماكنها فقد تم البدء فيه بعد حوالي عام في شهر سبتمبر عام 1821م وتم الإنتهاء منه في خلال 4 شهور أى في شهر يناير عام 1822م وقد إستغرقت فترة تجربة الآلات والحروف وتوزيع العمال عليها وتدريبهم على أعمالهم في المدة من شهر يناير عام 1822م إلى شهر أغسطس من نفس السنة أى حوالي 8 شهور وبلغ العمل في المطبعة أشده وبدأت المطبعة في عملية الإنتاج الفعلي فيما بين شهر أغسطس إلى شهر ديسمبر عام 1822م حينما أصدرت المطبعة أول مطبوعاتها في شهر ديسمبر عام 1822م وكانت ممثلة في قاموس إيطالي عربي وكان ذلك تلبية وترجمة لفكر محمد علي في ضرورة الإنفتاح على أوروبا لإقتباس أسباب تقدمها ومن ثمَّ ظهرت الحاجة إلى الترجمة بالإضافة إلى أن محمد علي إتجه في أول الأمر إلى إيطاليا في إرسال البعثات وكانت اللغة الإيطالية أول لغة أجنبية تدرس في المدارس التي قام بإنشائها في مصر وكان أول إسم للمطبعة في اللوحة التذكارية لإنشائها هو دار الطباعة ثم نجد في أول مطبوعاتها وهو القاموس العربي الإيطالي أن اسمها في الجزء العربي من القاموس هو مطبعة صاحب السعادة إذ كتب في أسفل أولى صفحات هذا الجزء تم الطبع في بولاق بمطبعة صاحب السعادة وإسمها في الجزء الإيطالي هو المطبعة الأميرية إذ كتب في أسفل صفحته الأولى بالخط الكبير كلمة Bolacco ثم تحتها بالخط الصغير Dalla Stamperia Reale ولا يهمنا في هذا المقام سوى أن الاسم الثابت الذى كان عاملا مشتركا في جميع الأسماء التي تم إطلاقها علي هذه المطبعة هو بولاق فكأن إسم بولاق قد إرتبط بالمطبعة منذ البداية حيث نجد إلي جانب الإسمين السابقين للمطبعة إسم ثالث هو مطبعة صاحب الفتوحات السنية ببولاق مصر المحمية وإسم رابع هو مطبعة صاحب السعادة الأبدية والهمة العلية الصفية التي أنشأها ببولاق مصر المحمية صانها الله من الآفات والبلية إلى غير ذلك من ضروب التفنن في التعبير التي يقصد بها تسمية المطبعة وتعظيم مؤسسها والدعاء لها وله وعلى ذلك فإن إسمها الرسمي التاريخي هو مطبعة بولاق وقد قام محمد علي بعد ذلك ولكي يضمن إستمرار المطبعة التي أنشأها في العمل بشكل دائم بتخصيص عدد من أعضاء البعثات التي كان يرسلها للخارج لتعلم فنون الرسم والحفر والطباعة وقد ورد ذلك في تقرير رفعه المسيو جومار مدير البعثة المصرية في باريس للجمعية الآسيوية عن البعثة الأولى التي أوفدها الباشا إلى باريس في عام 1826م فقد جاء في هذا التقرير ما ترجمته يتعلم بعض الطلاب الرسم كتمهيد لتعلم حفر الخرائط وهندسة البناء والآلات والطبع على الحجر وهؤلاء هم الذين سيباشرون حفر لوحات كتب العلوم التي ستترجم إلى اللغة العربية وهم يتعلمون أيضا فن الطباعة .
وبعد أن تولى عباس باشا الأول حفيد محمد علي حكم مصر في شهر نوفمبر عام 18488م وكان كثير من منشآت جده ومؤسساته لا تزال موجودة تؤدي وظيفتها وكان عباس قد رأى مشروعات جده من أجل تقدم ونهضة مصر إلا أنه أخذ يقيس كل شيء بعبارته المشهورة ينفع أو لا ينفع وقد دخلت معظم المشروعات في طائفة ما لا ينفع لا لشيء إلا لأنها كانت تحتاج إلى إنفاق المال وقد ترتب على ذلك أن سرح الجيش وأغلق الكثيرمن المصانع لكن لحسن الحظ تم إستثناء مطبعة بولاق فلقد ظلت مفتوحة تعمل طوال عهده بدون إنقطاع وقد طبع فيها في عهده بعض الكتب القيمة منها مقامات الحريري والمستطرف وقد طبعهما الشيخ التونسي على نفقته الخاصة في مطبعة بولاق ثم خطط المقريزي في جزئين وحاشية القسطلاني في الحديث ولا شك في أن هذه الكتب الأربعة من أقدم وأهم الكتب التي أصدرتها المطبعة في مختلف عصورها وكان نشاط المطبعة الذى يتم علي نفقة الحكومة مقصورا حينذاك على ما تحتاجه المدارس القليلة جدا التي بقيت ثم على ما كانت المصالح الحكومية في حاجة إليه من السجلات والدفاتر .
وفي عهد محمد سعيد باشا الذى تولي الحكم بعد عباس باشا الأول في شهر يوليو عام 18544م وكان على عكس عباس مستنيرا إلا أن سياسته نحو العلم والمعرفة لم تكن تختلف كثيرًا عن سياسة سلفه فهو مثله لا يرى لنشر المعرفة ضرورة إذ كان نشرها بين الناس يجعل حكمهم أمرا عسيرا ومع ذلك فقد كان مهتما بشئون الجيش ولهذا السبب سارت المطبعة في أوائل عهد محمد سعيد باشا كما كانت تسير في عهد عباس باشا الأول تعمل في نشاط محدود قاصر لا يعدو سجلات الحكومة وبعض الكتب القليلة التي كانت تلزم للمدارس القليلة الباقية مضافا إلى ذلك بعض تعليمات الجيش وكتب الفن الحربي أما الكتب العلمية فلم تكن تطبع على نفقة الحكومة فما كان يطبع منها إلا ما كان طبعه يتم على نفقة صاحب الكتاب وفي يوم 13 من شهر ربيع الثاني عام 1279 هجرية الموافق يوم 7 أكتوبر عام 1862م أهدى محمد سعيد باشا إلى عبد الرحمن بك رشدي مدير مصلحة السكك الحديدية بالبحر الأحمر مطبعة بولاق بكل ما يتعلق بها من عقار وعدد وآلات وكان هذا الإهداء على شكل إمتلاك مطلق ولم تكن تعهدا أو إلتزاما أو ملك إنتفاع كما كان معروفا في تلك الفترة عن الحكومة المصرية في سياستها الإقتصادية ومن ثم تغير إسمها إلى مطبعة عبد الرحمن رشدي ببولاق .
وقد ظلت المطبعة ملكا لعبد الرحمن رشدي بك من تاريخ منحها له في عهد محمد سعيد باشا حتي قام الخديوى إسماعيل الذى خلف محمد سعيد باشا في حكم مصر بداية من شهر يناير عام 1863م في يوم 7 فبراير عام 1865م يشرائها من عبد الرحمن رشدي بإسم إبنه الأمير إبراهيم حلمي في مقابل عشرين ألف جنيه وضمها إلى الدائرة السنية وهي دائرة الأملاك التابعة لأبناء الخديوي إسماعيل بحيث تكون هذه الأملاك غير تابعة لأملاك الدولة وتدخل بذلك المطبعة بداية من اليوم المذكور في طورمرحلة جديدة من تاريخها وهو عهد تبعيتها للدائرة السنية وهو كالعهد السابق له لم تكن المطبعة فيه ملكًا للحكومة وكما كانت في العهد الأول ملكا لعبد الرحمن رشدي كانت في الثاني ملكا لدائرة الأنجال وتغير إسمها في ذلك العهد فأصبحت تسمى المطبعة السنية ببولاق» أو مطبعة بولاق السنية ويعتبر عهد تبعية المطبعة للدائرة السنية من أزهى عهود مطبعة بولاق فقد إستهلت المطبعة عهدها الجديد بإصلاح وتجديد آلاتها حيث تم شراء آلة لعمل ظروف الخطابات في عام 1869م كما كان من نتيجة التقدم الذي شمل مطبعة بولاق في هذا العهد أن إشتركت في معرضين دوليين أقيم أحدهما في العاصمة الفرنسية باريس عام 1867م وأقيم الثاني في العاصمة النمساوية فيينا في عام 1873م وقد ظلت المطبعة تابعة للدائرة السنية إلى أن إنتهى عصر الخديوى إسماعيل في أواخر شهر يونيو عام 1879م عندما تم عزله من عرش مصر .
وفي عهد الخديوي توفيق خليفته وكانت الحركة الوطنية لا تزال حديثة العهد وكان الشعور القومي قد أخذ يشتد فعملت الحكومة على إسترداد مطبعة بولاق إلى حوزتها خشية إستخدام المطبعة في نشر الوعي السياسي والثقافي بين أفراد الشعب المصري خاصة وأن البلاد كانت على أعتاب مرحلة من الغليان السياسي نتيجة لإزدياد التدخل الأجنبي في شئون البلاد وتم بالفعل إسترداد المطبعة من الدائرة السنية في يوم 20 من يونيو عام 1880م م في عهد وزارة مصطفي رياض باشا بعد أن بقيت خارجة عن إدارتها ما يقارب ثماني عشرة سنة وقام الخديوي توفيق بهذه المناسبة بتجديد مبنى المطبعة وأثبت ذلك من خلال اللوحة التذكارية لتجديد المطبعة ونصها مكان سما بالطبع بناؤه وخصته آلاء العزيز بتمجيد مشيد له حسن التشييد مؤرخ لحسنى توفيق سنى بتجديد مع ذكر تاريخ التجديد في عام 1297 هجرية وتغير إسمها مرة أخرى ليصبح مطبعة بولاق الأميرية وبذلك إستقرت مطبعة بولاق الأميرية في يد الحكومة المصرية وتحولت إليها جميع أعمال المطبوعات الحكومية وطبقا لما هو مدون في دفاتر المطبعة بعد إسترداد الحكومة لها مباشرة في عام 1880م وكذلك من دفاترها في عام 1881م أن حركة العمل بها قد إتسعت إتساعا عظيما أدى إلى تشغيل المطبعة نهارا وليلا طوال 24 ساعة بدون إنقطاع وبعد عام 1881م وإلي عام 1896م مرت المطبعة بفترة ركود فمع قيامها بكل ما إحتاجت إليه الحكومة من أعمال الطباعة فإنها لم تتقدم في أي ناحية من النواحي التقنية والإقتصادية بل وتدهور بها الحال تماما كما قاست مطبعة بولاق من إنشغال الحكومة بالثورة العرابية حيث توقفت مطبعة بولاق عن العمل بعض الوقت خلالها ثم جاء الإحتلال الإنجليزى للبلاد عام 1882م ليزداد التدهور بالمطبعة خاصة بعد أن نزح عدد كبير من الأجانب عن مصر وكان من بينهم بالطبع بعض عمال المطبعة من الفنيين المهرة المتخصصين .
وفي عام 1903م في عهد الخديوى عباس حلمي الثاني تغير إسم المطبعة مرة أخرى إلى المطبعة الأميرية ببولاق وفي عام 1905م أصبح إسمها المطبعة الأميرية بالقاهرة وبعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952م إهتمت حكومة الثورة بضرورة الإهتمام بالمطبعة الأميرية ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر أنشئت وزارة الصناعة في عام 1956م وصدر قرار رئيس الجمهورية رقم 312 لسنة 1956م بإنشاء هيئة عامة للمطابع تلحق بوزارة الصناعة أطلق عليها إسم الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية و قد عقد مجلس إدارتها أول جلساته بتاريخ أول سبتمبر عام 1956م برئاسة عزيز صدقي وزير الصناعة آنذاك ومنذ ذلك التاريخ قررت وزارة الصناعة إقامة مبنى جديد للهيئة في منطقة إمبابة على مساحة قدرها 35 ألف متر مربع تقريبا كما زودتها بأحدث ماكينات الطباعة المتطورة حتى يتهيأ لها كل أسباب النهوض برسالتها وقد إفتتحت الهيئة رسميا مبناها الجديد في عهد الرئيس الراحل أنور السادات حيث قام بإفتتاحها المهندس إبراهيم سالم محمدين وزير الصناعة آنذاك يوم السبت 28 من شهرجمادى الآخر عام 1393 هجرية الموافق يوم 28 من شهر يوليو عام 1973م و إعتبرت الهيئة من الهيئات ذات الطابع الإقتصادي و ذلك بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1039 لسنة 1979م وتختص في الأساس بطباعة الجريدة الرسمية للدولة وتصدر كل يوم خميس وجريدة الوقائع المصرية وهي أقدم صحيفة مصرية و تصدر الآن كملحق للجريدة الرسمية غير أنها تصدر يوميا عدا أيام الجمع والعطلات إلي جانب كافة المطبوعات الحكومية بجميع أنواعها والكتب القانونية والتقاويم والمصحف الشريف وجدير بالذكر أنه خلال عام 2001م تم إنشاء أحدث وحدة تجهيزات فنية فى مصر وربما فى المنطقة بهذه المطابع تشتمل على نظام متكامل لأعمال التصميم وإدخال البيانات والصور وفصل الألوان وإنتاج الأفلام والألواح الطباعية ويشتمل هذا النظام علي عدد 2 وحدة إخراج أفلام تعتبرا الأحدث والأسرع علي مستوى العالم بالإضافة إلي عدد 2 جهاز خادم لشبكة ووحدات التشغيل والإخراج بنظام ربط أوتوماتيكي حديث وتعتبر الهيئة رائدة في تطبيق هذا النظام ربما على مستوى العالم .