صعدت آلة الزمن، ولم اضبط عدادها الخاص بوقت وتاريخ الحدث الذي انوي الذهاب إليه، لكني أدرته عدة لفات عشوائية جهة اليسار بمعني الرجوع للماضي، ولم أرد أن أنظرالي اي زمن سيعود… لاعطي نفسي متعة المفاجأة.
أغمضت عيني لمدة لم ادركها وأخذتني سنة من نوم، إستيقظت بعدها مبهورا بما حولي، لاول وهلة بدي لي كأن مؤشر عداد السنين لآلة الزمن قد ذهب بي الي المستقبل بدلا من الماضي، وخلت أني يوم الحساب حيث وقف الخلائق أجمعين، ونصب الميزان، وإقتربت الشمس من الرؤوس، وساد الفزع الأكبر.
ولكني أدركت أنها محكمة قريبة الشبه بيوم الحساب، أدركت سريعا أني ما زلت بأرض مصر الحبيبة، عرفت ذلك من المعابد والمسلات حولي والتي رفعت عليها الأعلام، ووضعت عليها أنواع مختلفه من المرايا العاكسه، لتزيد حرارة الشمس وهجا، وتزيد من إستضائتها، وجدت مسلات صغيرة الحجم منتشرة باعداد كبيرة لا يزيد طول الواحده منها عن مترين أو أكثر قليلا، ووجدت عليها جثث لرجال ونساء، بمحتلف الانواع من الهياكل العظيمة، والجثث المتعفنه التي تركت ليأكل منها الغربان،ولتكون عظة لباقي الشعب، أو لمن تحدثه نفسه بالعصيان، وكلها تشترك في وضعية واحده، لا يلبث من يراها من اول وهلة، ان يدرك الهدف منها وهو بلا شك القتل، وبدي لي انها طريقة الإعدام المنتشرة في ذلك الزمان، وهي القتل “بالخازوق” أو المسلة، ورغم إرتعاد فرائسي، من طريقة القتل تلك، إلا أن هول ما رأيت كان جديرا بالفضول والإهتمام، فقد رأيت رجلان أقوياء اشداء، عليهم سماحه وفوق رؤسهم كانها هالة من نور، وجدت قوما متشابهين في ملابسهم يقفون مذهولين على مقربة من الرجلين الواقفين في وسط الدائرة، يبدوا أنهم أتباع هؤلاء الرجلان، لاحظت عليهم أنه لا يوجد شباب الا هؤلاء الشابين أما باقي القوم فهم شيوخ ونساءحيث كان فرعون يقتل ذكورهم، ويستحيي نسائهم.
وفي الجانب المقابل رأيت شعبا كبيرا محتشدا رجالا ونساء ا وأطفالا، يبدو عليهم البؤس والفقر المضجع فملابسهم ممزقه،واغناهم من تلطخت ملابسه بالوان بعدد الرقع، كأنه فنانا تشكيليا رسم لوحات لا يفهمها الا هو، أو كأنهم البلياتشو من عدد الرقعات بها.
الرجال مجهدون من أثر العمل في المعابد وبناء المسلات وبعض الأهرامات الصغيرة، حيث يعملون بالسخرة، من أجل منحهم بعض الفاكهة والطعام والقمح لأسرهم.
وعلي جانب أخر ظهر الكهنة بكروشهم الكبيرة المنتفخه، ورؤسهم الحليقه اللامعة، حيث من عاداتهم حلق شعر الراس كنوع من الطهارة، وكأنهم يشعرون بعقدة الدنس فيطهرون أنفسهم بإزالة شعر راسهم.
وما أفزعني أكثر أني رايت الساحرات رأي العين ياتون من بين جدران المعابد صائحين صيحات مرعبه ، بينما وجدت ألوفا من السحرة يقفون في صفوف منتظمة، وبدأ كل منهم في إبراز مواهبه وقدراته السحريه، فمنهم من يحول التراب الى ذهب، ومنهم من يحول الجراده إلي فرس، ووقف حشود الفقراء يشاهدون في دهشة، وكأنه مهرجان كبير.
أما أنا قررت أن أقف في صفوف الفقراء، وأتخذ من الحشود ستارا لي، وظهر من أقصي المدينة رجل يسعي، كالرجل الذي يظهر في كل زمان فيعطيك إحساسا أنه خبيرا بكل شيئ، وعالما في كل شيئ،ممن يطلقون عليهم في زماننا، ” أبو العريف” لم يظهر عليه إرهاق العمل، ولم تكن ملابسه باليه،كعامة الشعب حاولت أن استدرجه، فصحبته إلي مكان قصيا، نستتر في ظل نخلة، آملا أن يتساقط علينا بعض من الرطب الجنيا، وبدون ان اسالته اجاب بلهجة العالم أدي حال المصرين من عامة الشعب!!! فقراء زراع خيرهم لغيرهم، يضعون البذور في التربه، ويعملون بمأكلهم في بناء المعابد والأهرام والمسلات الكبيرة والصغيرة” الخوازيق” لمن يعصي الأوامر، وينتظرون موسم الحصاد ليسلموا محصولاتهم للعاملين بديوان الفرعون بابخس الأسعار.
أما السحار فهم أهل المال فنصف الشعب من السحرة والنصف الأخر من الزباين واصحاب الحاجات والمسائل، الذين يدفعون كل غالي ورخيص فلا يكاد منزل مصري يخلو من حجاب، او من عمل، أو من خلطة سحرية، ولا تكاد مناسبة تمر إلا بوجود ساحر المنطقة.
أما الكهان فهم أهل الدين والحظوة ولهم الأمر والنهي وهم من ينصبون الفراعنة، ويباركونهم ويعطون لحكمهم الشرعية، في مقابل إشراكهم في الحكم وسيطرتهم على عقول الناس، وهم يملكون الضيع والمزارع من الهبات التي يمنحها لهم الحكام، ومن النذور التي يدفع بها الشعب المسكين لهم للحصول على البركة، حتى عروس النيل التي يظن المصريون أنها عروسة لنيل لعدم منع مائه، يحصلون عليها ايضا، فتكون من نصيبهم ومتعتهم قبل ان يذبحونها قربان لرع والهة النيل.
وقطع الحديث صوت الطبول العاليه فارتعد ابو العريف، وتلاشي وسط الجموع، وبدأت شاشات العرض الكبيرة التي بدت لي انها من افعال السحرة، تبث صورا حية لركاب الفرعون، حيث بدا الموكب مهيبا يتقدمه العجلات الحربيه،وعدد كبير من الخدم، ثم مجموعات الحراس بالوانها الزاهيه،ثم عرش الفرعون وهو جالسا فوقه يحمله فوق الاعناق عد كبير من الرجال الاشداء الغلاظ، وانحني الشعب ساجدا امام موكب الفرعون، وصاح الكهنة عاش الاله عاش الفرعون، اما موسي وهارون لما ينحيا ولم يرتعدا مثل باقي القوم، بل وقفا شامخين بمفردهما وسط دائرة من نور، معهما الله وحده لا شريك له.
وقف الفرعون عنيدا متكبرا تسبقه بطنه المنتفخه حيث علمت انه لا يتبرز الا كل اربعين يوما، في احتفالية ضخمة تقام خصيصا لهذه المناسبة فتحتفل البلاد بيوم اجلاسه على العرش، ويوم اجلاسه على حافة ” قصرية الحمام” بجانبه وزيره هامان، وفي مكان غير بعيد سلما ضخما، صنعوه بامر فرعون ليرتقي به الي السماء لمقابلة رب موسي.
اشار الفرعون لوزيره الذي وقف بتكبر ليشير للسحرة الذين اصطفوا وامامهم الوف العصي والحبال، فتقدم كبير السحرة تحيطه هالة من ناروخاطب موسي بلهجة المتكبر حيث بدي الغرور والتكبر سمة الحكم في هذا العصروالحقبة من الزمان، سأل موسي هل تلقي ؟ ام نكون نحن أول الملقين؟
سكت موسي برهة كانه يناجي ربه، ونظر لهارون أخيه، ثم اشار لكبير السحرة بيديه أن يبدأو هم أولا…. وفجأة تحولت كل العصي والحبال لثعابين وحيات كبيرة انتشرت في الميدان وصاحت الجماهير، ووقف الفرعون وملئه مبهورين، حتى موسي وهارون تغلب عليهم الخوف، وخيل لي انهم سيهموا بالفرار خارج ساحة العرض ، ثم ما لبس ان ثبتت قدماه ونظر للسماء كان ربه يكلمه، وألقي عصاه فاذا هي حية ضخمة عظيمة برأسين كانت تتحرك في لمح البصر والتقمت كل العصي والحبال، وسجد السحرة فجأة ساجدين ليس للفرعون، ولكنهم سجدوا مرددين آمنا برب موسي.
وهلل قوم موسي، ووقف باقي الشعب من المصرين مندهشين حائرين.
اما فرعون فامسك بطنه واصابه اسهالا شديدا، فاستتر وراء حراسه ليخرج ما في بطنه، حتى كادت مؤخرته ان تنكشف للعامة، وخرج جالسا على ” قصرية من ذهب” مهددا بالوعيد واشار لحراسه الذين احاطوا السحرة وهم ما زالوا ساجدين، آمرهم بتقطيع ارجلهم وايديهم من خلاف، معاقبا اياهم لجريمة الكفر به، متهمهم بانهم دبروا انقلابا ضده للحصول على الحكم.
وانصرف موسي وهاون وقومه فرحين شاكرين ربهم.وانصرف عامة الشعب ليكملوا عيدهم بدون تعلقيق.
وركبت ألة الزمن وعدت لزماني مرة اخري.