الدكتور عادل عامر
مرَّة أخرى، يَجِد العالم نفسه على شفير “حرب عملات مُدمِّرة”؛ وقد استحوذ هذا الأمر، ولجهة درء مخاطرة، على اهتمام القادة الماليين لمجموعة العشرين، التي اجتمعت في موسكو، والتي تمثِّل نحو 90 في المئة من الوزن الاقتصادي العالمي، ونحو ثُلْثيِّ سكَّان العالم. إنَّه “الانكماش” الذي يُغذِّي ويقوِّي المَيْل إلى “الخلاص الفردي” لدى كلِّ قوَّة من القوى الاقتصادية العالمية، والذي يذهب، من ثمَّ، بكلِّ ما يتواضعون عليه من “حلول جماعية”؛ فهو “المُفَرِّق”، والذي كلَّما فرَّق ساد بضغوطه، وانتعش خيار “الخلاص الفردي”، والذي هو طوباوية اقتصادية تامَّة في عالمنا الاقتصادي المُفْرِط في “العولمة”.
وهذا “الانكماش” هو ما يجعل كل قوَّة اقتصادية عالمية (اليابان والولايات المتحدة على وجه الخصوص) أكثر استخذاءً لمبدأ “التصدير أوَّلاً (ومهما كان الثَّمن)”. وهذا “التصدير”، ولجهة زيادته، هو ما يَحْمِل هذه القوَّة الاقتصادية العالمية، أو تلك، على التلاعب بأسواق صرف العملات، توصُّلاً إلى خفض سعر صرف عملتها القومية، والتي هي عالمية التداول أيضاً؛ فلا زيادة لصادراتها من دون هذا الخفض، الذي هو “الغاية”؛ ولا فَهْم لـ “الغاية” لدى أقطاب الاقتصاد العالمي إلاَّ “الفهم المكيافللي”.
وإذا كانت الولايات المتحدة واليابان سعيدتين لزيادة صادراتهما المتأتية من خفضهما المنظَّم لقيمة عملتيهما، فإنَّ فرنسا ترفع عقيرتها بالصراخ احتجاجاً على قوَّة سعر صرف اليورو، والتي تعوق صادراتها، وتنال من قوَّتها التنافسية.
الولايات المتحدة، وفي عهد إدارة الرئيس أوباما، أعلنت حرباً اقتصادية ضروساً على العالم، متَّخِذةً من “الدولار الضعيف”، أي الذي تتوفَّر هي على إضعافه، سلاحاً؛ وكأنَّ القوَّة العظمى في العالم، والتي تبدو أكبر من العالم، تريد أنْ تقول للعالم إنَّها لن تسمح بخلع “مَلِك العملات العالمية”، أي الدولار، عن عرشه.
“الهدف”، بحسب قولٍ للرئيس أوباما، هو “تعزيز الصادرات”؛ فمضاعفة حجم الصادرات (وفتح أسواق جديدة) هي مفتاح التعافي والنمو لاقتصاد الولايات المتحدة الذي أثخنته جراح الركود؛ و”الدولار الرخيص”، أي الذي يتراجع سعر صرفه أمام العملتين الأوروبية (اليورو) والصينية (اليوان) في المقام الأوَّل، هو الذي يرخِّص سعر السلعة الأمريكية في الأسواق الخارجية، مُكسباً إيَّاها، من ثمَّ، مزيداً من القدرة التنافسية. وكلَّما زادت الصادرات زاد الإنتاج الصناعي، وتراجعت نسبة البطالة (في القطاع الصناعي) في الولايات المتحدة، التي، وعلى ما أوضح الرئيس أوباما، يَعْتَمِد رخاؤها الاقتصادي ليس على زيادة وتنشيط الاستهلاك (الداخلي) فحسب، وإنَّما على تصنيع السلع (وتصديرها من ثمَّ).
“التصدير أوَّلاً!”.. هذا هو شعار الولايات المتحدة المتسربل بالبراءة الاقتصادية والتجارية؛ وإنِّي لأتوقَّع مزيداً من الأزمات والحروب والقلاقل والاضطرابات في العالم؛ لأنَّ صناعة (وتصدير) سلع الموت والدمار، أي الأسلحة، هي التي في مقدورها الإفادة أكثر من غيرها من “الدولار الضعيف”. في الأزمان الاقتصادية العادية، وفي مناخ تحرُّر الاقتصاد القومي الأمريكي من ضغوط الركود، كانت الإدارات المتعاقبة (من جمهورية وديمقراطية) تلجأ، وعلى وجه العموم، إلى الاستدانة (من الداخل والخارج) من أجل سدِّ العجز (المزمن والمتعاظم) في موازناتها، فالإنفاق الحكومي، أو العام، وفي مجال التسلُّح على وجه الخصوص، كان دائماً يفوق، ويفوق كثيراً، حجم الضرائب التي تجبيها الدولة من الشعب.
وكانت اللعبة الحكومية المألوفة لسدِّ هذا العجز هي الطلب من “مجلس الاحتياط الفدرالي”، أي البنك المركزي الأمريكي، رَفْع سعر الفائدة على الدولار؛ فهذا الرَّفع يغري المستثمرين (في الداخل والخارج) بتحويل مدَّخراتهم من العملات الأخرى إلى العملة الأمريكية، وضخَّها، من ثمَّ، في مصارف الولايات المتحدة.
هذا التنامي في حجم الطلب (الداخلي والعالمي) على “الورقة الخضراء” كان يؤدِّي، بالضرورة، إلى زيادة سعر صرفها مقابل العملات الصعبة الأخرى، فتتضرَّر، من ثمَّ، الصادرات الأمريكية (التي بسبب غلاء أسعار البضائع الأمريكية في الأسواق الخارجية تراجعت قدرتها التنافسية) وينمو العجز في الميزان التجاري الأمريكي لمصلحة قوى اقتصادية عالمية منافسة كالصين، التي تتسع حصَّتها من السوق الداخلية الأمريكية مع كل ارتفاع في سعر صرف الدولار، ومع كل ارتفاع، من ثمَّ، في أسعار البضائع الأمريكية.
على أنَّ هذه الضَّارة (بالنسبة إلى الصادرات الأمريكية، وإلى الميزان التجاري للولايات المتحدة مع تلك القوى) كانت شرطاً لتلك النافعة، ألا وهي زيادة حجم الودائع (بالدولار) في المصارف الأمريكية، فتتمكَّن الحكومة الأمريكية، من ثمَّ، من الاقتراض (لسدِّ العجز في موازنة الدولة).
اللعبة نفسها كانت تتضمَّن أيضاً أنْ يفوِّض الكونغرس إلى الحكومة (وزارة المالية منها) أمر إصدار «سندات (الخزينة)»؛ وفي كل سندٍ منها تتعهد الحكومة بدفع محتواه المالي لشاريه في أجل معيَّن. الحكومة تبيع، من ثمَّ، «سندات الخزينة» التي أصدرتها للبنك المركزي، الذي يدفع للحكومة ثمنها نقداً.
وهذه السندات تصبح كالسلع في مستودع البنك المركزي، فيتولَّى بيعها في أسواق المال، متحكِّماً، من ثمَّ، في حجم السيولة، فإذا أراد تقليل حجم السيولة باع جزءاً من هذه السندات، وإذا أراد زيادة حجم السيولة اشترى (من الأسواق) جزءاً من السندات.
أمَّا النتيجة النهائية لهذه اللعبة فهي مزيد من الغرق للدولة والمجتمع في بحر الديون، فتنامي حجم الدين الحكومي (لسد العجز المزمن والمتزايد في موازنة الدولة) يفضي إلى جباية مزيد من الضرائب من الشعب، الذي كلَّما زادت أعباؤه الضريبية اشتد لديه الميل إلى مزيد من الاقتراض.
الشِّق الأوَّل من اللعبة، والذي فيه تطلب الحكومة من البنك المركزي رفع سعر الفائدة على الدولار، لا تستطيع إدارة الرئيس أوباما لعبه الآن حيث معاناة الاقتصاد الأمريكي من الركود تَحُول بينها وبين طلب رفع سعر الفائدة؛ لكنَّ الشِّق الثاني، أي إصدار سندات الخزينة، وبيعها للبنك المركزي، ليبيعها للمستثمرين من أفراد ودول، ما زال في متناولها.
على أنَّ الأزمة الكبرى التي تواجهها إدارة الرئيس أوباما تتمثَّل في أنَّ زيادة حجم ديونها (من هذه الطريق) تقترن بعجزها عن سداد هذه الديون من خلال فرض مزيدٍ من الضرائب (في اقتصاد مثخن بجراح الركود).
وحتى تتغلَّب على هذه الأزمة لا بدَّ لها من أن تُنشِّط الإنتاج الصناعي من خلال زيادة الصادرات الأمريكية، وفتح أسواق جديدة؛ فإنَّ انتعاش الصادرات هو الطريق الآمنة لزيادة حجم الضرائب التي تجبيها الدولة من الشعب، ولسداد بعضٍ من الديون الحكومية المتراكمة. وعليه، قرَّرت إدارة الرئيس أوباما فِعْل كل شيء ممكن من أجل خفض سعر صرف الدولار مقابل العملات الصعبة الأخرى.
«الدولار الضعيف» هو سلاح تستعمله القوة العظمى في العالم ضدَّ الشعوب جميعاً ولاسيما منها الشعوب الفقيرة، فضعف الدولار يؤدِّي حتماً إلى غلاء نفطي عالمي؛ وهذا الغلاء النفطي، ولكون المشتقات النفطية تدخل في صناعة كمية هائلة من السلع، يفضي حتماً إلى غلاء عالمي عام.
ومع ارتفاع أسعار النفط عالمياً، بسبب ضعف الدولار، تشتد الحاجة أكثر إلى صناعة «الوقود الحيوي»، أي إلى تحويل جزء كبير ومتزايد من الأراضي الزراعية إلى مزارع لهذا الوقود، فيتراجع، من ثمَّ، الإنتاج الغذائي العالمي، وتَضْرِب العالم موجة جديدة وقوية من الغلاء في أسعار المواد الغذائية.
ويَعْظُم الغلاء ويشتد في البلدان التي تستورد كثيراً من السلع من القوى الاقتصادية العالمية التي زادت أسعار صرف عملاتها مقابل الدولار كالعملة الأوروبية (اليورو).
إنَّ عصابة من اللصوص، وبالمعنى الحرفي للكلمة، هي التي قادت عملية تحوُّل الدولار إلى حاكم مالي أوتوقراطي، وعلى المستوى العالمي؛ وهذه العصابة هي البنك المركزي الأمريكي نفسه. سنة 1933، ومن أجل رفع الغطاء الذهبي عن الدولار، سُنَّ قانون يسمح بمصادرة الذهب من البنوك والأفراد في داخل الولايات المتحدة، فسُحِب الذهب (بالقمع والإكراه) من التداول، وحلَّت محله «الورقة الخضراء»، التي ما أنْ بدأ رفع الغطاء الذهبي عنها، وفي هذه الطريقة اللصوصية، حتى شرعت تَصْفَر، وتزداد اصفراراً.
قبل سنة 1933، كان يُكْتَب على ورقة الدولار عبارة يفيد معناها أنَّ هذه الورقة تستمد قيمتها من محتواها من الذهب. بعد ذلك أصبحت «ورقة قانونية للدفع»، لا قيمة (ذهبية) لها. سنة 1944، وفي مناخ استبداد نظرية كينز بالتفكير الاقتصادي الأمريكي، والغربي على وجه العموم، عقد مؤتمر في مدينة بريتون وود، في مقاطعة نيوهامشير، حضره ممثلو 44 دولة من الحلفاء، واتَّفقوا فيه على تأسيس نظام نقدي عالمي جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وبموجب الاتفاقية التي توصَّلوا إليها التزمت كل دولة سعراً ثابتاً لعملتها بالنسبة إلى الدولار، والتزمت، في المقابل، الولايات المتحدة سعراً ثابتاً للدولار بالنسبة إلى الذهب (35 دولاراً للأوقية الواحدة من الذهب).
الاتفاقية حظرت على الولايات المتحدة أن تطبع من «الورقة الخضراء» أكثر مما عندها من ذهب. والآن، تملك الولايات المتحدة (في فورت نوكس، وفي البنك المركزي في نيويورك) معظم الذهب في العالم، فمن خلال مساعدتها لأوروبا لإعادة بناء اقتصادها الذي دمَّرته الحرب العالمية الثانية، سَحَبَت الولايات المتحدة من القارة قسماً كبيراً من مخزونها من الذهب، معطيةً الأوروبيين في مقابله عملتها الورقية التي كانت خاضعة لأحكام اتفاقية «بريتون وودز».
سنة 1971، حرَّرت الولايات المتحدة الدولار من قيده الذهبي، فأعلن الرئيس نيكسون أنَّ بلاده لن تدفع بالذهب من الآن وصاعداً. وقال: «من قبل كان يأتينا شخص حاملاً 35 دولاراً، فنعطيه بدلاً منها أوقية من الذهب. كنا ملتزمين هذا؛ أمَّا الآن فلا»!
وهكذا تضاعفت الكمية المطبوعة من الدولار بين سنتي 1971 و 2000 إلى أكثر من 2000 في المئة، فالطبع (الرخيص) ما عاد مشروطاً بغطاء ذهبي.
ولقد صدق ديغول، وأصاب كبد الحقيقة، إذ وصف طبع الولايات المتحدة للدولار من دون غطاء ذهبي في خلال حرب فيتنام بأنَّه «سرقة مكشوفة وكبيرة».
حتى سنة 1971، كان حجم الاقتصاد الحقيقي يعدل تقريباً حجم الاقتصاد (الورقي) المالي؛ ومع تزايد إدمان الولايات المتحدة على طباعة عملتها الورقية، أصبح حجم الاقتصاد المالي (الذي يقوم على المضاربة) أكبر بنحو 100 مرَّة من حجم الاقتصاد الحقيقي!
وبفضل «الليبرالية الجديدة»، أصبح نصيب الاقتصاد الحقيقي 10 في المئة من مجموع المدَّخرات النقدية في العالم!
ومع انفصال الولايات المتحدة من طرف واحد عن قاعدة الذهب أصبح معظم المخزون النقدي العالمي مغطَّى بالدولار الورقي غير المغطَّى بالذهب !