تحقيق استقصائي بقلم : رحاب عياد شرود
اجرت الكاتبة الصحفية الدكتورة رحاب عياد شرود عن تجارة الأطفال في تونس العاصمة بمتابعة دقيقة لأهم لحظات حياتهم اليومية وهاهى تروى لنا قصة احدى النماذج المتسولة التى تابعتها عن كثب .
وهى فتاة صغيرة السن نحيفة الجسد تهوي على الأرض بروح ذليلة، تحتسب ما جمعته من المليمات وترتب ما بقي من الأوراق بعد أن أرهقتها مسافة الرصيف ذهابا وإيابا، تلاحق المارة مستعطفة قلوبهم وسط إشفاق وتجاهل وامتعاض واشمئزاز.
بعد طول مراقبة، اقتربت منها، وما أن لمحتني حتى سارعت خطاها، باسطة يدها المرتعشة، مبادرة “لله ..لربي”، تمدني بيدها الأخرى بمجرد يومية. وعن السعر ترد “بما تجود به يدك” فأدركت انه يمكن أن أدفع ضعف السعر دون أن أحتاج إلى أخذها حتى، وربما كان هذا المطلوب فعلا. وسألت نفسى من تكون هه الفتاة؟ ولأي سبب هي هنا؟
فأجابت اسمى ميساء، فى العاشرة من عمرى، أصيلة منطقة “جبل خروب “من ولاية القصرين، زج بها في الشارع برفقة ثلاثة أطفال ـ من ذات العائلةـ من اجل استعطاف القلوب وسلب مال الجيوب لا بالخطف ولا بالنهب وإنما بفن انتقاء الكلمات وآداب الإلقاء بها على مسامع المارة، وأجابت ان سبب تسولها”قسوة الفقر والخصاصة وقلة الحيلة وضعف الإمكانيات “هي ما دفعتني أنا وهيكل وحقي ورمزي للتسول هنا برفقة جدتنا.
ميساء ليست حالة شاذة، فظاهرة استغلال الأطفال ـ في العاصمةـ تجاوز الحالات الفردية إلى ما هو أخطر من ذلك وهوالأتجار بهم من خلال الشبكات الإجرامية وبعض الأولياء في ظل تراخي الجهات المختصة وضعف تطبيق قانون رقم 3 أوت 2016 المتعلق بمكافحة الاتجار بالأشخاص، مما يترتب عنه تعريض الأطفال لجرائم أخرى أكثر خطورة.
طفولة بين المطرقة و السندان
وأوضحت الكاتبة الطريقة والأسلوب المتبع لتنفيذ مهمتهم اليومية ، لميساء ومن معها، وهى جمع المال في زمن قياسي. الأسلوب واضح؛ ملابس بالية، قصص درامية تختلف حيثياتها من متسوللأخر، أما المكان فهو الشارع أينما تعرض الطفولة على قارعته.
وعرفت الطفل، بحسب مجلة حماية الطفل، هو كل إنسان عمره أقل من ثمانية عشر عاما ما لم يبلغ سن الرشد بمقتضى أحكام خاصة. وبتعريف أوضح هو الكائن الأضعف داخل المجتمع الذي طفت على سطحه “كل أنواع جرائم الاتجار بالأشخاص وأكثر شريحة معنية هي شريحة الأطفالالذين يتم استغلالهم في التسول والعمل في المنازل”، على حد تعبير الأستاذة / روضة العبيدى رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص.
أن الأرقام والإحصائيات التى تلقاها مندوبو الهيئة بلغت 16158هي حصيلة الإشعارات لعدد الأطفال المهددين خلال 2017. وهذا الرقم لم يأتي من فراغ بل هو نتاج تطور امتد
لسنوات طمرت حقيقته قبل الثورة حفاظا على مشهد الدولة التونسية في أعين المنظمات الدولية.
كما كشـفـت روضة العبيدى عن مـفارقة عجيبةبلغت فيها عدد الإشعارات 112 إشعارا في السنة التي صـدر فيها القانون رقم 3 أوت 2016. لتتجاوز الرقـم القياسي سنة 2017 بمعدل 308 إشعارامن بـينهم287 حـالة تـسـول حسـب إحصائية صادرة عن الهـيئة الوطنية
لمكـافحـة الاتجـار بالأشـخـاص.
أكدت روضة العبيدي أن الهيئة قد تكفلت خلال الفترة الممتدة من جانفي 2017 إلى غاية جانفي 2018 بقرابة 100 حالة لضحايا من جنسيات أجنبية أغلبيتهم من الأطفال القصر. في الوقت الذي يفترض أن تكون فيه حالة الطفلة ميساء كأقرانها، جالسة خلف مكتبها تستعد لإمتحانات ما بعد عطلة نصف الثلاثي الأول، نجدها تصارع الزحام داخل”المترو” وتتوسل الى الجالس والواقف أن يأخذ منها تلك الورقة التي تعرضها عليهم، صباحا ومساءا وعلى طول المسافة الفاصلة بين حي النور-الكبارية والعاصمةالمحتلة للمرتبة الأولى في عدد الإشعارات.
وهناك من الأطفال يستعملون أساليب أخرى من “التسول المقنع” لجمع المال، فمنهم من وضع ضمادات طبية على جسده للتسول في التقاطعات المرورية والأسواق والمستشفيات والمركبات التجارية ومنهم من يعرض خدمات مثل مسح زجاج السيارات أو بيع المناديل والكعك والعلكة.
كلها أساليب استجلاء اعترضت رحلتنا الميدانية داخل شوارع العاصمة، وهذه نماذج أخرى مختلفة للطفل فاروق وأخته اللذان يعرضان بطاقة أدعية وهذا الطفل عبد الرؤوف، ذا الخامسة عشر عاما والأخ لخمسة أطفال، يعرض المناديل. والعديد من الأطفال الذين يعرضون ورودا اصطناعية. لكن الملفت للانتباه، تواجدهم أمام المحلات مما يثير غضب أصحابها. فهناك من يلجأ إلى طردهم حتى لا ينزعج رواد محله كما يفعل صبري المرغي، بقّال يلجأ إليه هؤلاء الأطفال من أجل “التبييس”. وهناك، من يلجأ اليه بإسم الصدقة، يقدم القليل من البطاطا المقلية لمسترق النظر من فتحة الباب المعرج ببطن مزقزق وأمعاء خاوية، على أمل أن يرحل فلا يشوه واجهة محله. للأسف أطفالنا أعدمت ملامح البراءة في وجوههم فأصبحوا محترفي الاستعطاف، واكتسبوا صفات بارعةلتقمص أدوار التمثيل والتظاهر بالمرض بحرفية عالية، والتذلل بطريقة مهينة،وقام فريق الأخصائيين النفسيين بمركز الرعاية الاجتماعية بتونس بتفسير تلك الظاهرة أنها “نتاج علاقة معقدة بين الطفل المتسول والمجتمع والأسرة تقوم على ثنائية الاستغلال والاستعطاف بحيث يدرك الطفل انه مقصى من المجتمع والأسرة ولا يتمتع بحقوقه كأقرانه ولكن في فى نفس الوقت لا يختار علاقة عدائية مع المجتمع بل يتبنى علاقة نفعية قائمة على الخداع وتعميق الفوارق الاجتماعية لإفتكاك حقه” فيصبح الفقرسبب للتسول، و نعمة لا نقمة.
مستوطنات الفقر
وقال أحد مواطنى ” جبل خروب ” الذى تسكن به ميساء أن”المنطقة منسية” وبلا اهتمام ولذلك يخرج منها أغلب الأطفال هكذا.
وذكرت الكاتبة أن 15% هي نسبة الفقراء في تونس بحسب الإحصائيات الرسمية أي ما يتجاوز المليون و نصف مواطن يعانون الفقر المدقع. اغلب الحالات سجلت في الوسط و الشمال الغربيين، مسقط رأس اغلب الأطفال الذين تقابلنا معهم وتحديدا من عشائر مستقرة بولاية القصرين تعاني الخصاصة وفق ما أفادنا به امني مباشر في مركز الأمن الوطني فندق الغلة بالعاصمة اختار عدم الإفصاح عن اسمه.
في جبل خروب “الفقر واضح على ملامح سكانه الذين هم بمثابة الأموات فوق الأرض” كما وصفهم لنا مواطنو المنطقة وعن إستغلال بعض أولياء المنطقة لأطفالهم في التسول يقول”ان اولياؤهم يرسلونهم للعاصمة وكل المدن التونسية” فيقيمون في مناطق لا تخلو شوارعها من فزاعة الخصاصة فكان قدر ميساء العيش في حي النور-الكبارية.
حي النور-الكبارية
وعن هذا الحى ذذكرت الكاتبة أنه حي شعبي يقطنه 30 ألف مواطن تونسي، ذكره اغلب الأطفال الذين إلتقيناهم. كان من الصعب إقناع ميساء بزيارتنا للبيت الذي تستأجره الجدة في هذا الحي ولكن بعد محاولات طلبت منا أن نتبعها فكانت تنعرج بنا يمينا ويسارا بشكل يصعب تذكر طريق العودة إلى أن وصلنا إلى بيت غير مكتمل البناء غرفة ومطبخ وشبه حمام، فوضة عارمة، مفارش على الأرض ملقاة تعكس عدد المقيمين بما يتراوح بين خمس إلى ست أفراد يجمعهم الليل ليفرقهم النهار.بيت عكس مستوى الفقر الذي يعانيه مقيموه “فهم لا يحاربون من اجل غدا أفضل بل يشقون من اجل عشاء الليلة”هكذا وصفهم احد شباب المنطقة. لم تخفي ميساء مخاوفها من تواجدنا رغم مرافقة أخيها فسرعانما طلبت منا المغادرة لتلتحق بجدتها. فكان الأمر كذلك ولم ينتهي يومنا إلا ونحن نتبع أطفال متسولين إلى أن بلغنا الخيام.
خيام الرحل
وتقع منطقة خيام الرحل على بعد يتجاوز21 كلم عن العاصمة، تنتشر خيام الرحل الذين إستوطنوا أرضا فأصبحت شبه محظورة.هنا، وفق احد الأطفال الذين وجدناهم،تنتهي الدراسة قبل أن تبدأ وتنعدم المرافق الصحية والترفيهية ولولا الهاتف لنعزلوا عنا.
هنا التسول ليس فقرا فقط و إنما كما وصفه فريق الأخصائيين النفسيين “نمط عيش وفلسفة حياة يكون فيه كل فرد مطالب بجلب المال بغض النظر عن سنه”. رغم ذلك، الأطفال شديدي التعلق بأهلهم يرفضون بشدة فكرة الابتعاد عنهم حتى وإن كان المقابل حياة أفضل إلى حد الهرب من مراكز الرعاية في صورة تأخر ذويهم الذين هم أكثر حرصا على إخراجهم.
فهل يبرر الفقر وفلسفة الحياة جريمة الآباء في حق أبنائهم؟
أولياء برتبة تجار أطفال
“أبي مريض و أمي لا تجد عملا لهذا أرسلوني” هكذا روت لنا ميساء إحدى قصصها الدرامية لتبرر واقعا انتشرت فيه ثقافة التحايل و”اللقمة الباردة”التى ليس فيها تعب أو شقاء كما يفضل البعض تسميتها، فرغم أن القانون قد جرم التسول تحت مسمى التكفف بالسجن مدة 6 أشهر إلا أن الآباء قد تمادوا إلى حد التورط في الاتجار بأطفالهم. وحسب احصائية مندوبي حماية الطفولة لسنة 2017 أن الأولياء يمثلون نسبة54.7% من أسباب تهديد سلامة الطفل إلى حد استغلالهم في التسول سواء بصورة عرضية أو عن قصد. حيث احتلت حالات عجز الأبوين أو من يسهر على رعاية الطفل عن الإحاطة والتربية المرتبة الأولى بنسبة 28.1% من بين أصناف التهديد. واحتلت وضعية التقصير البين والمتواصل في التربية والرعاية المرتبة الثانية بنسبة 26.6%. ويقصد بالتقصير البين في التربية والرعاية، اعتياد ترك الطفل دون رقابة أو متابعة والتخلي عن إرشاده وتوجيهه أو السهر على شؤونه وهي وضعيات ترتبط غالبا بالعائلات والأسر المفككة.
وفي إطار القضاء على ظاهرة التسول والمهن الوضيعه للأطفال تم تشكيل حملات أمنية للتصدي لتلك الظاهرة وبالفعل تمكنت منطقة الأمن الوطني بمدينة سوسة بحضور المندوب الجهوي للطفولة بضبط امرأة أصيلة الجهة بصدد التسول بإستعمال ابنها الرضيع.
جشع الأولياء يتضاعف فلم يكتفوا بإستعطاف القلوب بحملهم لأطفالهم والجلوس بهم على الأرصفة في برد الشتاء وحر الصيف بل أصبحوا ينشطون في إطار منظم. إذ لم تنكر روضة العبيدي “أن الشبكات يمكن أن تكون عائلية” بل وأكدت، في تصريح لها بمناسبة الإعلان عن انضمام تونس لحملة القلب الأزرق لمكافحة الاتجار بالبشر،”أن هناك شبكات تقوم بإستئجار رضع بمقابل حتى تستعمله كوسيلة في التسول وأخر اليوم يتم إرجاعه لعائلته بعد تسليمها المبلغ المتفق عليه” والذي يختلف من طفل إلى أخر قدرته العبيدي ب 15 إلى 20 دينار للطفل ويقدره معز الشريف، رئيس الجمعية التونسية لحقوق الطفل، “بين 30 إلى 80 دينار بحسب السن وظروف المعيشة وصور استغلاله” التي قد تبلغ حد “إجبار الطفل على تناول مادة مخدرة ليسهل السيطرة عليه فينام الطفل طيلة اليوم دون حركة”.
معطيات تأكدنا من صحتها، فلقائنا مع ميساء فسح لنا المجال للحديث مع الجدة المرافقة لأطفال يحملون ذات اللقب تعترف ميساء أنهم أولاد عمها وتنكر الجدة في استثناءات. لم تكن الجدة مجرد مرافقة بل الخزينة المالية للعائدات اليومية حسب ما رصدته عدساتنا المصورة، وفي سؤالنا لها عن مآل ما تجعه ميساء تقول العجوز “تخدم لأمها” وعن مدى رضا والديها تردف “بعلم أبويها”.
ذات المسرح يوجه أصابع الاتهام إلى الأولياء مجددا، فاليوم متسولة رفقة أخيها تروي لنا قصة شبيهة بما روته لنا ميساء “بمناسبة العطلة الدراسية، يستأجر أبي بيتا بحي النور-الكبارية، لنجمع المال ونعود في نهاية الأسبوع إلى القصرين”. ولا اعلم أي سبب يكسب أبويهما الشرعية للزج بهم في الشارع من اجل “المهمة القذرة” وإن كانوا عالمين بوضعهم القانوني كتجار طفولة؟
سؤال لم نتردد في طرحه على الجدة التي جمعنا بها لقاء ثان، رفقة ضحية جديدة لم تتجاوز سبعة أعوام، ليتأكد لنا أنها على دراية تامة بأن استغلال الأطفال في التسول جريمة يعاقب عليها القانون. ليست الجدة فقط، فحنان، أصيلة ولاية سوسة مقيمة بالعاصمة، تستغل طفليها؛ ادم وآية، في التسول في الممر الفاصل بين جامع الفتح ومحطة الجمهورية تعلم بذلك أيضا ففي تقصينا عن مدى إستراتجية موقعها تجيب “الحاكم يتبع فيا” خلنا للحظة انه مفتش عنها ليتضح أنها تتخفى لعلمها بأن تسولها رفقة طفليها يعد جريمة يعاقب عليها قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص بالسجن مدة 15 عاما و بخطية من 50 ألف دينار إلى 100 ألف دينار.
إدراك الأولياء للجريمة انعكس على الأطفال فهم قد لقنوا عدم الظهور أمام عدسات الكاميرا والتحفظ عن التسجيل الصوتي إلى حد التهجم عليك إن حاولت إقناعهم أو الهروب وتجنب الرد إلى حد اختراق الأكاذيب وعدم الاعتراف عند السؤال وهو موقف عبد الرؤوف، ضحية رفضت الظهور أمام شاشة الكاميرا، اعترف في تردد “أتعاب يومي أعطيها لأبي لأنه رب البيت”.
جشع اولياء الأمور فتح المجال للشبكات الإجرامية للاستثمار في أطفالهم.
شبكات إجرامية تحترف
خرج التسول من دائرة المهارات الفردية إلى إطار العمل المؤسسى المنظم الذي يتخذ في نشاطه الميداني شكلين من التنظيم؛ إما جماعات إجرامية و إما وفاق إجرامي.
وفي إطار أن تجنيد الأطفال أو نقلهم أو تنقيلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم لغرض الاستغلال يعتبر اتجارا بهم فإن روضة العبيدي لا تنكر وجود مثل هذه التنظيمات التي تتعمد تحويل الأطفال إلى دمى في نشاطهم.
وهذا الأمر لم يعد يحتاج إلى اعتراف أو تصريح، فلقد رصد فيديو قصير، تم تداوله في موقع التواصل الاجتماعي، سيارة دون بطاقة رمادية تقوم بجمع أطفال كانوا قد انتشروا للتسول في مدينة حمام الأنف.إضافة إلى ما أكدته لنا العبيدي عن تدخلهم في وضعية مشابهة يتم فيها نقل الأطفال بذات الكيفية.
واثناءتتبع معدة التحقيق اثر هذه الجماعات التقت بأمني مباشر بمركز الأمن الوطني فندق الغلة، رفض الإدلاء بإسمه، وكانت تصريحاته الصادمة مبررا لتخوفه، فقبالة “المدرسة الإعدادية شارع المحطة” بالعاصمة “تتكفل سيارات دون بطاقة رمادية بإنزال أطفال بثياب رثة ينتشرون فيما بعد للتسول” والمروع أن الأمني يؤكد أن هذه الجريمة ترتكب بصفة تكاد تكون يومية من الساعة السابعة إلى الثامنة صباحا.
انتقلنا على عين المكان لتوثيق الجريمة. لم تتوقف في المكان السيارات المذكورة لكن في الأثناء يمر فوج من أطفال ذكورا وإناثا، عزمنا السير خلفهم إلا أنهم سرعانما تفرقوا، لنلمحهم مجتمعين في ساحة برشلونة أثناء حديثنا مع عبد الرؤوف الذي ما أن رآهم حتى قال “هؤلاء جيء بهم من القصرين” وعن السبب يردف “يتسولون ويبيعون اليوميات”.
للأسف، لم يعد من الممكن أن ننكر، اليوم، أن ظاهرة التسول أصبحت عملا مؤسساتيا تديره تنظيمات مختصة في التسول توفر لهم الحماية وتوزعهم على المناطق وتؤمن لهم التنقل. رغم محاولات البلاد التونسية حصر الظاهرة، يبقى الواقع أكثر تعقدا من أن تستوعبه الأرقام المبوبة.
الهوة بين الواقع و الأرقام
ربما تكون الأرقام مهمة لتحديد ظاهرة ما لكنها تفقد قيمتها عندما يكون أساسها واهيا و هو واقع الحال في مسألة استغلال الأطفال عامة وفي التسول خاصة. فلقد جاء على لسان الأستاذ الباحث في علوم تقنيات الطفولة والمستشار لدى قاضي الأطفال، إبراهيم الريحاني أن “الإحصائيات الموجودة سواء كانت من خلال مندوبي حماية الطفولة أو غيرها لا تعكس واقع الأطفال لأنها مبنية على الإشعارات” فمندوب حماية الطفولة يتحرك بموجب التبليغ و”لا يوجد خطة عمل مشتركة بينه و بين بقية الهياكل” بل لا يوجد بنك للمعلومات والإحصائيات تعنى بظاهرة تسول الأطفال وتغطي حجمها كما ينبغي.
أمام هذا الفراغ الإحصائي، تبرز الإحصائيات غير الرسمية أن الشارع التونسي يجمع بين 5 إلى 8 ألاف طفل يقضون يومهم في الشارع سواء مشردين أو متسولين ممن لهم عائلات يعودون إليهم ليلا. ورغم اختلاف التكييف فإن ذلك يفضي إلى حقيقة واحدة وهي أنهم فئة اجتماعية خاصة لا يعيشون مثل أقرانهم. فأين هم المسئولون؟
المسئولون يحيدون عن المسار
ولأن حماية الأطفال واجب وطني ملزم للمجتمع وهياكل الدولة التي تتصدرها وزارة المرأة والأسرة والطفولة ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الداخلية والهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص التي وإن اختلفت مهامها فإن غايتها واحدة، تأمين سلامة الطفل جسديا ومعنويا بما يتوافق ومصلحته الفضلى. وعليه قررنا خوض تجربة واجب الإشعار بما هو إعلام وتبليغ لمختلف الهياكل المعنية فكانت النتائج كالتالي:
“منجمش نحل مشاكل الناس الكل”
يوم 02-11-2018، على اثر معاينتنا لحالة استغلال الأم حنان لطفليها ادم وآية، اتصلت معدة التحقيق بمندوب حماية الطفل بتونس وقدمت تفاصيل الواقعة مستفسرة عن مدة التدخل فقيل “في الحال بعد مجرد تنسيق” لكن الحال طال وتجاوز خمس ساعات إلى أن رأينا حنان تركب الميترو الخفيف وتغادر في سلام. أعدنا الكرة يوم 23 نوفمبر 2018 حين التقينا بحنان في ذات المكان متلبسة بذات الجريمة لكننا لم نكتفي بالاتصال بمندوب حماية الطفولة بل واتصلنا بالرقم الأخضر لوزارة المرأة والأسرة والطفولة لنفاجئ باقتراحهم على معدة التحقيق مدها برقم مندوب حماية الطفولة لتتصل به. فهل أصبح المشعر منسقا بين الهياكل المعنية؟ وكالمعتاد تمر الساعات دون تدخل. وعليه قررنا التوجه إلى مكتب السيد أنيس عون الله،بتاريخ 03-12-2018، وفي إطار حديثنا عن الإجراءات تساءلنا إذا ما كان يتابع الإشعارات التي ترد عليه والتي يقوم بإحالتها إلى مصلحة وقاية الأحداث فأجابنا بالإيجاب مؤكدا أن جوهر نشاطه يكمن في تلك المرحلة. ولكن بعرضنا عليه وضعية استغلال حنان لطفليها وإشعارنا بخصوصها استدرك “منجمش نحل مشاكل الناس الكل” بل ويغالي في قوله أن ادم وأية ليسا الوحيدين وأنه لا يمكنه التدخل حتى وإن كان معاينا للوضعية لأن مصلحة الطفل الفضلى تقتضي إبقائه مع أبويه “حتى وإن استغلاه”. مقدما لنا عديد الأعذار مفادها صعوبات تقنية تحول دون نجاعة التدخل. وعن مصير الطفلين يردف أنيس عون الله انه لا يعلم متى يتم التدخل بشأنهما مؤكدا انه “لا مندوب حماية الطفولة ولا غيره قادر على الحد من الظاهرة” وفي المقابل يراهن على الوعي الاجتماعي.
الإدارة الفرعية للوقاية الاجتماعية بين الاعتراف و الإنكار
بموجب مراسلة من مندوب حماية الطفولة و الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص، تتكفل الإدارة الفرعية للوقاية الاجتماعية، التي تعد هيكلا مفصليا في مسألة استغلال الأطفال في التسول، بإنتشالهم والاستماع إليهم. لكن، وفقا لما رواه لنا أنيس عون الله، هي عاجزة لأسباب تقنية تعود إلى صعوبة التواصل معها ومحدودية عدد سيارات تدخلها. وهو أمر ينكره رئيس مصلحة وقاية الأحداث، زياد الحجري، متمسكا بقوله انه يتم التدخل في كل الحالات المهددة للطفل في الشارع ملقيا اللوم على الأطراف المسئولة في مرحلة ما بعد الانتشال.
ولكن، ومن ذات الإدارة، يقر رئيس مصلحة مكافحة الاتجار بالأشخاص، محمد علي الجديدي، بما جاء على لسان عون الله مضيفا أن العجز لا يرد إلى نقص الإمكانيات التقنية فقط وإنما البشرية أيضا لمحدودية عدد الأعوان المرصودين للغرض.
موعد مع العدم و العتاب :
يوم 10-11-2018، وبعد فشل كل محاولات الحصول على مندوب حماية الطفولة بتونس، اتصلت معدة التحقيق بشرطة النجدة. وما أن علم متلقي الاتصال أن الموضوع إشعار بحالة استغلال طفلة في التسول حتى ضرب لها موعدا مع العدم مفاده “سنتصل بك لاحقا”.
تغادر معدة التحقيق مسرح الجريمة لتعود إليه بعد وقت قصير فترصد عدسات الكاميرا سيارتي أمن على بعد أمتار من صاحبة السبع أعوام والجدة. فعزمت إشعارهم بصفة مباشرة، وبعد طول استفسار عن شخصها، توجه الأمني نحوهما وأخذهما. أمر أربك حركات الجدة فأثار خوف الحفيدة التي تمسكت بلباس مستغلتها باكية في محاولة للأمني تهدئتها.
بصعود الجدة و الحفيدة السيارة الأمنية المحاطة نوافذها بالشباك الحديدية، توجه الأمني نحوى معدة التحقيق يصحح لها تكييفها للوقائع معتبرا أن الأمر يتعلق بالتكفف لا حالة اتجار بالطفلة. وبعد طول نقاش أدركنا أن لا خلفية للأمني عن قانون 3 أوت 2016.
يفرض الفصل 4 من مجلة حماية الطفل، مصلحة الطفل الفضلى كأساس في جميع الإجراءات التي تتخذ بشأنه من قبل المحاكم والسلطات الإدارية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية. وبما أن المصلحة الفضلى للطفل “عبارة فضفاضة تخضع للسلطة التقديرية للهياكل المتدخل”، وفق ما أوضحه لنا الأستاذ المحامي حسام الدين خليفة ،فإن الأمر لا يناقش لكننا بحثنا في تأثير سير الإجراءات بتلك الكيفية على نفسية الطفل وانتهينا إلى أنه “يخلق حالة هستيرية واضطرابا ناتج عن خوف وهلع” بحد تعبير الأخصائية النفسية يسرى الذوادي. فأي مصلحة فضلى تلك التي تبرر ما حصل؟ أمر يجيب عنه مجموعة من الأمنيين من مركز الأمن الوطني فندق الغلة اختاروا التمسك بالجانب الإنساني في معاتبة معدة التحقيق لتبليغها عن الحالة وعدم التزامها الصمت مما أدى إلى نقل الطفلة بتلك الإجراءات. فهل في ذلك اعتراف ضمني بعدم مراعاة المصلحة الفضلى الطفلة أم يعزى لجهلهم بالقانون؟
وهنا تقوم مسؤولية الهيئة في التكوين والتدريب. فبمناسبة إعلان انضمام تونس للحملة العالمية لمكافحة الاتجار بالأشخاص، عرجت روضة العبيدي عن مسألة تدريب قضاة ووكلاء الجمهورية ومساعدين وكلاء الجمهورية وأمنيين بإجمال 1400 متدرب فهل هو عدد كافي لمجابهة الظاهرة والتي أكثر صورها شيوعا يرتكب على مرمى عيون الأمنيين؟ ربما جزء من الإجابة قدمه لنا الأمني، الذي رفض الإفصاح عن اسمه، بالصمت وبالهروب ونحن نسأله عن الإمكانيات التي تنقصهم لمجابهة الظاهرة والتصدي للسيارات الناقلة التي هم على علم بها.
فهل نحن أمام جهل بالقانون أم تواطؤ مع الأمنيين؟
تستبعد روضة العبيدي إمكانية التواطؤ وتبرهن ذلك بالجهل بالقانون وضعف الإمكانيات المادية لتكوين عدد اكبر يضمن نجاعة التدخل.
و يبقى السؤال المطروح أين القانون من كل هذا؟
قانون برعاية شكر الله سعيكم :
وفقا لإحصائيات الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص و إلى حدود 2017، ثمة قضية واحدة انتهى القضاء إلى إدانة المتهمين فيها على أساس أحكام القانون المتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ولم تتجاوز غالبية القضايا الأخرى مرحلة التحقيق أو تم حفظ التهم فيها أو الحكم بعدم سماع الدعوى. وفي التقصي عن الأسباب، يجيب الأستاذ المحامي حسام الدين خليفة بعدم وجود جهاز شرطة مختص في التقصّي في هذا الصنف من القضايا التي تم إسنادها إلى الإدارة الفرعية للوقاية الاجتماعية التي تختصّ بالجرائم الأخلاقية، فهذه الإدارة مع كثرة القضايا المتعهّدة بها وقلّة إمكانياتها لا يمكن لها إبلاء قضايا الاتجار بالأشخاص أهمية فائقة. ويضيف الأستاذ خليفة، أن الجرائم التي تتم معاينتها بالجهات يجب على الأعوان المتعهدين بها إحالتها إلى الفرقة المختصة في العاصمة ممّا يستغرق وقتا طويلا.
في حين تفسره الأستاذة مروى الوسلاتي بالغموض المتعلق بأحكام القانون في ذهن المتعاملين معه وعدم استيعاب الجرائم المضمّنة به وعدم تخصيص الإمكانيات اللازمة والضرورية من قبل الدولة يجعل التتبعات الجزائية أكثر صعوبة ويصير معها من الصعب مؤاخذة الأشخاص على أساسها. حيث لاحظ القاضي ماهر العبيدي، من خلال عدد من القضايا التي تم التعهد بها أن السياسة الجزائية للدولة لا تسير في اتجاه إعطاء الأولوية في تكييف الجرائم على أساس قانون منع الاتجار بالأشخاص. بالتالي فإن عدم فهم جميع القضاة لأحكام القانون يجعلهم أكثر ميلا إلى تكييف الوقائع على أساس قوانين سارية المفعول منذ زمن بعيد. فلم يتعوّد القضاة على الوضعية الخاصة للضحية والتي تتمثل في وضعية “اللاعقاب” أي عدم إمكانية مؤاخذتها جزائيا لكونها ضحية وتضيف روضة العبيدي سبب أخر مفاده تغليب الجانب الإنساني والانطباعات والخلفيات تكوين الشخصية على الجانب القانوني الصارم.
في ظل فشل الهياكل و اعترافها بمحدودية نشاطها تبقى الطفولة في مهب الرياح تصارع من اجل المصير المجهول.
طفولة في مهب الرياح
رغم تباهي الدولة وخصوصا وزارتي المرأة والأسرة والطفولة والهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص بتكفلهم برعاية بعض الأطفال المهددين والمتاجرة بهم فإن الآلاف منهم يذهبون إلى مصيرمظلم: إما جنوح و إما ضحايا لجرائم أخرى.
الطفولة الجانحة: حسب الأخصائية النفسية، يسرى الذوادي، فإن تعرض الطفل الاستغلال “يخلق نوعا من النظرة الدونية للذات تؤدي إلى اضطرابات في مستوى استبطان الضوابط الاجتماعية بالتالي اضطرابات سلوكية” قد تؤدي بالطفل إلى إدمان المخدرات، احتراف الجريمة والسير في طريق محفوف بخطر الاعتداءات أين تسكن النقمة على الدولة والمجتمع أفئدة الأطفال الضحايا والتطرف والانتماء إلى جماعات الإرهابية.
تخمينات تؤكدها النشرية الإحصائية لنشاط مندوبي حماية الطفولة 2017 التي جاء فيها أن 522 طفل في نزاع مع القانون 13.6% منهم في حالة عود. واغلب الإيقافات تتعلق بقضايا السرقة والاعتداء والعنف.
مؤطر
فلقد كشف التقرير الإحصائي السنوي لسنة 2016 حول نشاط مندوبي حماية الطفولة انه تم تسجيل 93 حالة استغلال طفل في الإجرام المنظم 83.9% منهم تعلقت بزراعة الأفكار الهدامة والتعصب.
الطفل ضحية: إن تواجد الطفل في الشارع يجعله فريسة سهلة وموضوع جريمة يكون هو ضحيتها. فلقد جاء عن منظمة اليونيسيف أن الأطفال الأصغر سنا يكونون أكثر عرضة لأنواع معينة من العنف وتتنوع المخاطر بتقدمهم في العمر من عنف واستغلال وإيذاء بما في ذلك الاعتداء والاستغلال الجنسي الذي قدرته الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص ب 11.2% من مجموع حالات الاتجار بالأطفال.
يصارع البعض من الأطفال و يجد لنفسه حلا ربما يراه احرم من لسعات برد شتاء وحر الصيف، فلقد ارتفعت حصيلة محاولات الانتحار إلى 124 حالة من 2016 إلى 2017. وفي المقابل يرضخ البعض لقدر كتبه سلطان المال كما هو حال ميساء التي غادرت العاصمة في نهاية عطلة نصف الثلاثي الأول لنلتقي بها مع بداية عطلة الشتاء القارص في ذات مسرح الجريمة.