نسمع كثيرا من كبار المسئولين فى بلادنا مصر وطلع السادة النواب الممثلين عن الشعب الفقير والمطحون .. عندما يطرح عليهم السؤال عن أوضاع حقوق الإنسان فى مصر، وسواء جاء السؤال من شخصيات أو مؤسسات مصرية، أو مؤسسات أجنبية، فيكون ردهم باستهزاء، وماذا تعنى حقوق الإنسان بالنسبة لعشرات الملايين من الفقراء، والملايين العاطلين الذين يبحثون عن عمل؟ ويتصور هؤلاء المسئولون أنهم وجدوا بذلك الرد الذى يفحم من طرحوا عليهم السؤال، ويظهرهم على أنهم لا يهتمون سوى بشكاوى قلة من المواطنين، ينتمون إلى صفوف النخبة المتعلمة، والمتغربة، وفاحشة الثراء، والتى لا تجد ما تلهو به سوى التشدق بالحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان، متجاهلين انصراف المواطنين عنهم، لكسب لقمة العيش، أو للبحث عن مصدر للرزق يؤمن لهم لقمة العيش.بعبارة أخرى، يقصد هؤلاء المسئولون أنهم مشغولون فقط بتوفير فرص العمل والعيش الكريم للمواطنين، وربما عندما ينجحون فى ذلك، بعد خمسة وعشرين عاما على الأقل، يمكن بعدها أن يعكفوا على ما يبدو ترفا فى الوقت الحاضر، ويسمحوا للمواطنين بممارسة حقوق الإنسان كما هو حادث فى الغرب، للمواطنين الغربيين.لا أظن أن هذه الحجة يمكن أن تخدعكم، فوراءها فهمٌ مغلوط لحقوق الإنسان، لا أظن أنه متعمد، ولكنه ناتج عن تصور خاطئ لمفهوم حقوق الإنسان، وهو تصور شائع، ليس بالضرورة نتيجة الجهل، أو فلنقل أنه ليس نتيجة الجهل وحده، ولكنه تصور مريح لهؤلاء المسئولين، وأمثالهم كثيرون فى مصر وغيرها من البلاد التى تماثلها فى ظرفها الراهن، وكان منتشرا على عهد الرئيس المعزول حسنى مبارك، وهو ما زال يتعشش فى عقول بعض المسئولين فى الوقت الحاضر. ويستند هذا التصور الخاطئ إلى مقدمتين زائفتين، أولهما أن ما يسمى بالحقوق المدنية والسياسية لا يهم الفقراء، وثانيتهما أن حقوق الإنسان قاصرة على الحقوق المدنية والسياسية.خذوا مثلا الحقوق المدنية والسياسية، أى حقوق الشخص أينما كان، وحقوق المواطن، منها أولا الحق فى المساواة، ثانيا الحق فى الحرية، وثالثا الحق فى الكرامة بمعنى عدم التعرض للتعذيب أو سوء المعاملة. طبعا هناك تفريعات كثيرة لهذه الحقوق، وهناك حقوق أخرى غيرها مثل الحق فى التنظيم والمشاركة السياسية. ولكن فلنقتصر على هذه الحقوق الأساسية. ألا يهتم الفقراء بالحق فى المساواة أمام القانون؟ألم يكن الحق فى المساواة هو الذى دفع عبدالحميد شتا إلى الانتحار، وهو الشاب النابغ الذى كان واحدا من تلامذتى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ونجح بتفوق فى الامتحان التحريرى للسلك التجارى، ولكنه فيما يسمى بامتحان الهيئة سُئِل عن عمل والده، ولما أجاب ممتحنيه من كبار مسئولى وزارة الاقتصاد حينئذ بأنه فلاح كان جوابهم أنهم أسقطوه فى الامتحان، فما كان منه إلا أن أنهى حياته منتحرا. أو ليس الإصرار على المساواة هو الذى يدفع بمئات من خريجى كلية الحقوق المتفوقين إلى أن يتظاهروا طلبا للمساواة فى الالتحاق بسلك النيابة والقضاء القاصر على أبناء السادة المستشارين حتى ولو كانوا أقل تفوقا وأقل استعدادا؟ أو ليس الحق فى الحرية أمرا مهما بالنسبة لعشرات أو مئات من الشباب الذين هم باعتراف رئيس الدولة مسجونون دون اتهام ودون تحقيق، وطبعا دون محاكمة، وغالبيتهم من الشباب الفقير؟. أو ليس أخيرا الحق فى الكرامة هو الذى دفع محمد بوعزيزى للانتحار بعد أن صفعته الشرطية التونسية، فلم يجد معنى لحياته بعد أن أخفق فى أن يجنى من تعليمه عملا لائقا أو على الأقل معاملة كريمة.يمكن أن أسوق لكم عشرات الأمثلة التى تؤكد أن هذه الحقوق الأساسية فى المساواة والحرية والكرامة ليست فقط مهمة للفقراء، ولكن الفقراء يشعرون بأنها ملكات يجب أن يمارسوها، وأنهم لا يرضون بحرمانهم منها.