بقلم: د. رجب إبراهيم
إن هوية اللغة العربية ومستقبلها في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي هي بين المطرقة والسندان تمر بإبادة ممنهجة؛ إذ تتعرض للمحاربة من ناحية، ومحاولة استبدالها باللغة العبرية من ناحية أخرى في ظل قمع صهيوني يهدف إلى تثبيت أهم ركائز مشروعه الاستيطاني وهو التمهيد لتحل اللغة العبرية مكان العربية كخطوة أولى لتهويد المنطقة بأسرها.
ويتحتم أن نعلم تاريخية هذه المحاولات الخبيثة لتهويد اللغة واجتثاثها، كذلك المقاومة المستميتة للغة العربية وأهلها للبقاء والاستمرار، وأن حال هذه المتلازمة للصراع بين الجانبين ممتدة عبر حقب زمنية طويلة تحاول اللغة العربية أن تقف صامدة ومن أمامها حائط صد قوي من مفكري الأرض المباركة ومثقفي فلسطين ومن خلفهم طائفة المؤمنين بقضايا اللغة العربية.
لا مناص من حتمية الحفاظ على اللغة العربية مما يضمن الحفاظ على الوجود الفلسطيني، وللوقوف على التاريخ اللغوي للغة العبرية، وعرض صورة قريبة من الواقع اللغوي الفلسطيني والهجمات الصهيونية الشرسة عليه ومحاولة عبرنته، مما يمثل حلقة من حلقات الصراع الإسرائيلي لمحو الهوية العربية والإسلامية لفلسطين المباركة. والتحذير من مغبة الاستسلام والركون لهذا الواقع اللغوي المرير، الذي يستعصي على التمرير.
إن اللغة ليست مجرد وسيلة لقضاء الحاجات والتعبير عن الرغبات، وليست مجرد وسيلة للتواصل الإنساني والبشري وحسب، إنما تتجاوز اللغة مهامها المنوطة بها تلك إلى دور أوسع وأهم بكثير؛ فاللغة هي أهم المكونات والمركبات التي تتكون منها هوية الفرد والجماعة، ولغة الإنسان وهويته وجهان لعملة واحدة، وللغة أهمية كبيرة – ولا شك – في حفظ ذاكرة الأمم والحضارات وتاريخ الشعوب.
ولقد أدرك الكيان الصهيوني دور اللغة العربية في حفظ الهوية العربية والإسلامية للفلسطينيين، وأن اللغة العربية هي رمز الوجود الفلسطيني، وهي الوعاء الذي يحفظ الذاكرة التاريخية لهذا الشعب؛ ولذلك حرصت إسرائيل على تهويد وعبرنة اللسان الفلسطيني العربي عن طريق إضعاف اللغة العربية وتفتيتها تدريجيا من خلال وسائل علمية وتعليمية وإعلامية، وتفريغ اللغة العربية من مضمونها وإضفاء الطابع اليهودي عليها، والهدف من وراء ذلك إذابة وصهر شخصية وهوية المواطن الفلسطيني في المجتمع اليهودي، فلا يبق له تاريخ ولا هوية ولا حق في المطالبة بأرضه.
ويرى ثقات المؤرخين أن معظم أهل فلسطين الحاليين، وخصوصا القرويين، هم من أنسال القبائل الكنعانية والعمورية، ومن القبائل العربية التي استقرت في فلسطين قبل الفتح الإسلامي وبعده؛ حيث اندمج الجميع في نسيج واحد، يجمعهم الإسلام واللغة العربية.
من هذا يتضح أن أرض فلسطين لم تكن يوما أرضا بلا شعب كما يزعم اليهود، بل سكنتها القبائل العربية منذ فجر التاريخ، وأقاموا عليها حضارة عريقة قبل ظهور الإسرائيليين على أرض كنعان، وبقيت القبائل الكنعانية العربية على أرض فلسطين حتى دخل الإسلام هذه الأرض، فأسلموا وأصبحت لغتهم عربية، بينما كان اليهود دائمي الشتات والتيه، لم تجمعهم يوما أرض واحدة ولا لغة.
إن الاحتلال من أخطر الأحداث التي يمكن أن تؤثر على اللغة، وقد تعرضت اللغة العربية على امتداد الوطن العربي لهجمة شرسة، وكيد مخطط مدروس، وفي كل مرة كانت تقع فيها دولة عربية تحت وطأة الاحتلال، لم يكن الاحتلال يحارب اللغة العربية نفسها، فاللغة العربية محفوظة ما دامت السماوات والأرض، وإنما يحاول محو اللغة من لسان أصحابها. عندما احتلت فرنسا الجزائر، قال الحاكم الفرنسي في الجزائر: “يجب أن نزيل لغة القرآن العربية من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي حتى ننتصر عليهم”(1). وهذا ما يحاول اليهود فعله حيال اللغة العربية في فلسطين، فهم يسعون سعيا حثيثا لإضعاف اللغة العربية على لسان أصحابها، واقتلاع اللسان العربي واستبداله بالعبري بشتّى الطرق والوسائل، للقضاء على الهوية العربية وتهويد لسان أصحاب الأرض، فلا يبقى للفلسطيني أي وجود، ولا أي شيء يربطه أو يذكِّره بأصله وهويته.
وللحديث بقية.