بقلم الدكتور / علي عبدالظاهر الضيف
نعود إليكم مرة أخرى مع الحلقة التاسعة من مسلسل مزبلة التاريخ. والذي يختلف قليلا عما سبق، حيث أخرج لكم من المزبلة نوعا مختلفا من هذه النفايات، سأخرج لكم ثلاث نساء من المزبلة أبتليت بهم الأمة فكنّ رمزا للخيانة واستحققن مكانة تليق بهن في المزبلة.
النظيرة بنت الساطرون
موعدنا مع النظيرة بنت الساطرون والساطرون ملك مملكة الحضر .. أول مملكة عربية خارج الجزيرة العربية، تقع في وسط العراق جنوب غربي مدينة الموصل .
نشأت تلك المملكة في القرن الثالث الميلادي، فاقت الممالك حسنا وروعة وتطورا حيث تميزت بجمال عمرانها وروعة تنسيقها ، وقد وصل التقدم العلمي بها أن حماماتها كان فيها نظام تسخين متطور، تحيطها أبراج مراقبة وهي منيعة ضد الغزاة بسبب هندسة تعميرها وقوة أسلحتها، حتى الأقواس التي كان يستخدمها السكان ترمي بدل السهم سهمين في آن واحد !
أما عن ديانتهم فقد عبد سكانها الشمس وغيرها ، ثم تحولوا إلى المسيحية، وارتقت فكريا وثقافيا وسياسيا للدرجة التي أصبح الحكم فيها ديموقراطيا، فأصبح لكل فرد الحق في إبداء رأيه !
ذكر لنا ابن هشام أن هذه الملكة كانت مطمعا للغزاة؛ فقد حاول الرومان والفرس احتلالها ولكنهم كلما أعادوا الكرة تلو الكرة يعودون بخفي حنين دون جدوى؛ فالمملكة حصينة وأهلها في ثبات شديد واستبسال نادر في الدفاع عن مملكتهم !
حتى جاءها الملك سابور ملك الساسانيين، وقام بحصارها سنتين وقيل أربع، ولم يفلح في اختراقها واحتلالها، ومما عرف عن الملك سابور أنه كان معجبا بنفسه، فلا يخرج إلا وهو بكامل زينته وذهبه ومجوهراته مختالا بما حباه الله من وسامة الشكل وحسن البنية فلما رأته النظيرة بنت ملك الحضر أعجبها وعشقته وأصبحت تحلم به في يقظتها ونومها، وسلبها عقلها .. ثم قررت أغبى قرار من الممكن أن تتخذه فتاة !
سول لها شيطانها أن ترسل له تساومه .. على ماذا ؟
عرضت عليه أن يتزوجها في مقابل أن تدله على طريقة يقتحم بها مملكة أبيها ويسيطر عليها !
فجاءته الفرصة على طبق من ذهب وبلا تفكير قبل شرطها فدلته على الطريق، ودخل سابور المملكة وعاث فيها الفساد، وسفك الدماء، وانهارت مملكة عربايا ووقعت في يد الفرس ! وأمسك بأبيها و…..
قتله !
أوفى الملك بعهده وتزوج النظيرة، وأخذها معه لمملكته .. وفي إحدى الليالي في جلسة صفاء زوجية سألها:
كيف كان يعاملك أبوك؟ فأجابت بأنه كان يعاملها كأفضل ما تعامل به الملكات : حرير في حرير وذهب وتأمر تطاع، وضع الدنيا بين يديها ولم يحرمها أي شيء .
فقال: إذا كان هذا فضل أبيك عليك وفعلت فيه ما فعلت فماذا أنت فاعلة بي؟
فاتخذ قرارا حاسما وغريبا …
أمر بأن تربط من شعرها بذيل حصان فركض الفرس حتى ماتت سحلا .
فنالت جزاء خيانتها لأقرب الناس إليها وخلدها التاريخ في مزبلته وما طالت بر أبيها ولا حتى حب قاتله ( لا بلح الشام ولا عنب اليمن) .
وبخيانتها انطوت صفحة عظيمة من حضارة عربية عريقة كانت مثالا للتحضر والرقي ، حضارة من أجمل وأقوى الحضارات في العالم حينها، ولم يستطع أي جيش أن يهزمها لولا الخيانة .. وما أدراك ما الخيانة !
امرأة نوح
امرأة نوح لم يُذكر اسمها في القرآن الكريم، وإنما أشار الله جلّ وعلا إليها مرة واحدة بصفتها على أنها “امرأة نوح”.وقد ذُكرت مع “امرأة لوط” وذلك في قوله تعالى:
( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)(التحريم 10 )
أما عن اسم امرأة نوح فقد أجمع معظم المفسرين على أن اسمها “والعة”، وقيل أنها “والغة”، وقيل هي “واعلة”، وقيل “واغلة”، وقيل “والغة” و”واهلة”.
وأما “الخيانة” في قوله تعالى فليس المقصود بها الخيانة الزوجية المتعارف عليها بالجسد، فحاشا أنبياء الله أن يُدنس عرضهم، وإنما هي الخيانة المعنوية وتمزيق أواصر المودة والتراحم بين الزوجين بالنفاق والكفر .
“فخانتاهما”، تعني نافقتا وأخفتا الكفر عن زوجيهم، وأظهرتا الإيمان.
كيف كانت الخيانة إذاً؟
يُقال أن خيانة امرأة نوح لزوجها كانت بأنها قالت للناس عنه أنه غير عاقل، وأشاعت عليه السفاهة والجنون، ولم تكتف تلك المرأة بذلك، بل كانت تخبر الجبابرة الكفرة عن كل من يُؤمن بعقيدته ويتبع نبي الله زوجها، ليعذبوه ويُؤذوه، فعاقبها الله تعالى بأن أغرقها مع قومها الكافرين.
امرأة لوط
رغم لين زوجها معها وحسن معاملته لها فلم يقصر في حقها إلا أنها كانت سيئة التعامل سليطة اللسان لا تحفظ سر زوجها وتعصي أمره .
جاءت الملائكة على لوط عليه السلام وهو في أرض له يسقي زرعها، ويعمل فيها، وهو لايعرفهم، فطلبوا منه أن يضيّفهم عنده، فاستحيا ألا يجيبهم إلى طلبهم، رغم ما كان يخشاه عليهم من أهل سدوم، فانطلق أمامهم وراح يلمح لهم في كلامه عن فعل أهل تلك البلاد وسوء تصرفهم، لعلَّ الضيوف يعلمون فيغيروا رأيهم وينطلقوا إلى قرية أخرى ، ولكن الملائكة كانوا يعلمون كل شيء عن أفعال أهل سدوم. وكانوا على يقين أنه لن يصيبهم منهم أذى .
ثم إن لوطاً انطلق أمامهم إلى منزله، وأخبر زوجته وأهله بأمرهم، قائلاً لها:
إنه قد أتانا أضياف هذه الليلة فاكتمي أمرهم ولاتعلمي أهلك بهم، ولكِ عليَّ أن أسامحك على كل ما بدرَ منك تجاهي من أذى إلى اليوم.. فوافقت.
كانت امرأة لوط على دين قومها، وكانت بينها وبينهم علامة تدلهم ما إذا كان لوط قد ضيّف أحداً أم لا… وكانت تلك العلامة أن تدخن فوق السطح نهاراً، وأن تشعل فوقه النار ليلاً. وما أن دخل الملائكة الضيوف منزل سيدنا لوط وهو معهم، حتى قامت زوجته وأوقدت ناراً فوق سطح المنزل، ليعلم قومها بضيوف لوط . وهكذا أفشت أمرهم. لوط
رأى أهل سدوم النار فوق سطع منزل لوط ٍ(ع) وكانت علامة على وجود الضيوف، فتوافدوا إليه يريدون الأضياف ويتهددون النبي لوط. الذي طلب منهم أن يتزوجوا بناته ولا يفضحوه في ضيفه فرفضوا واقتحموا بيته ليفعلوا بضيوفه الفحشاء !
وجار الرد الإلهي سريعا
وعلى لسان الضيوف الملائكة، فقالوا: {يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، فأسر بأهلك بقطع من الليل ولايلتفت منكم من أحد إلا امرأتك إنها مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب}. وخاف لوط وحزن ولكن الملائكة طمأنوه: {وقالوا: لاتخف ولاتحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين. إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون}.
فنالت مع قومها ما تستحق من عذاب وانتقام من رب العالمين .