بقلم الدكتور /علي عبدالظاهر الضيف
في إحدى الغابات أعُلِن عن وظيفة شاغرة لوظيفة أرنب !
مرت فترة ولم يتقدم أحد للوظيفة غير دب عاطل عن العمل، وتم قبوله وصدر له أمر بتعيينه !
تسلم الدب مهام عمله وبدأ ممارسة وظيفة الأرنب، فليس في الإمكان أحسن مما كان، على الأقل أفضل من لقب عاطل، وبعد مدة لاحظ الدب أن في الغابة أرنبًا معيّنًا بدرجة وظيفية هي (دب) ويحصل على راتب ومخصصات وعلاوة دب، أما هو فكل ما يحصل عليه مخصصات أرنب !
استشاط الدب غضبا فهو كائن له مكانته ويستحق مخصصات وأكلات معينة ومسكن لائق بمكانته كأحد وحوش الغابة ومخصصات الأرنب لا تكاد تسد رمقه حتى هزل جسمه وضعف وصار (عرة) بين الوحوش، لم ينم الدب طوال الليل من إحساسه بالظلم والقهر ولم يتناول الخس والجزر المخصص له في هذا اليوم واشتاق إلى أكل اللحوم كبقية الوحوش .. ظل الليل كله يفكر فيما سيفعل حتى هداه تفكيره إلى أن يتقدم بشكوى للجهات العليا .
في الصباح تقدم الدب بشكوى إلى مدير الإدارة وحُوِّلت الشكوى إلى الإدارة العامة، وتشكلت لجنة من الفهود للنظر في الشكوى، وتمّ استدعاء الدب والأرنب للنظر في القضية.
إحقاقا للحق ولأن الغابة دولة مؤسسات وبها قوانين صارمة طلبت اللجنة من الأرنب أن يقدم أوراقه ووثائقه الثبوتية .. فوجدوا أن كل الوثائق تؤكد أن الأرنب دب !
وعلى الجانب الآخر طلبت اللجنة من الدب أن يقدم أوراقه ووثائقه الثبوتية، فكانت كل الوثائق تؤكد أنّ الدب أرنب !
بفحص الشكوى والاعتماد على الأوراق المقدمة من الدب والأرنب جاء قرار اللجنة :
يبقي الوضع على ما هو عليه؛ لأن الأرنب دب، والدب أرنب بكل المقاييس والدلائل !
استقبل الدب قرار اللجنة بالصمت مع ابتسامة ساخرة و لم يستأنف قرار اللجنة ولم يعترض عليه، وعندما سألوه عن سبب موافقته على القرار أجاب:
كيف أعترض على قرار لجنة “الفهود” والتي هي أصلًا مجموعة من “الحمير” وكل أوراقهم تقول إنهم فهود.
قفزت إلى ذهني هذه القصة وهي من الأدب التشيكي وأنا أتألم من ظاهرة إسناد الأمر إلى غير أهله وهي ظاهرة كفيلة بالقضاء على جيل كامل ..
وكم من قصص النابغين في بلادنا والذين وجدوا المكانة اللائقة لهم خارج بلادنا تستدعي الأسي والحزن لضياع تلك الثروة نتيجة البيروقراطية والتعنت في تنفيذ قوانين بشكلها لا بروحها ومديرين مختصين في إهدار الكفاءات .
ولإبراز حجم تلك الكارثة لكم أن تتخيلوا كم المبالغ التي أنفقتها الدولة على الطالب كي يجد نفسه في النهاية في وظيفة لا تتناسب وما أعد له وما تأهل له من عمل .. والنتيجة موظف محبط لا يقوم بواجبه على أكمل وجه، فضلا عما يترتب على ذلك من تضييع مصالح المواطنين مع موظفين غير مؤهلين للعمل بتلك الوظيفة فيترتب على ذلك ضياع القدرات والمواهب، والحل الأسهل هو أن يحاول الشاب الخريج أن يهاجر من البلد أو أن يجد فرصة في الدول العربية حتى يعمل في تخصصه الذي يتوافق ومؤهلاته.
أكثر من نصف الشباب في مصر يلهثون إلى السفر خارج البلاد ويسعون إلى الحصول على عقود عمل في الخارج برواتب زهيدة في بلد السفر مقارنة بمستوى المعيشة، ولكنها على أية حال أفضل من البقاء في مصر والعمل في قطاع لا يقدر مواهبه وقدر اته .
وهناك من الشباب من يضطر إلى العمل في القطاع الخاص الذي يستنفذ قدراته وطاقته ولا يتحصل منه على ما يفتح به بيتا ويضمن مستقبله وغالبيه يصب في محيط مندوب المبيعات والسلع الترويجية .. وهناك من لم يجد فيعمل سائق توك توك !
على رأي أحد شعراء العامية (وما دام أخرتها توكتوك بتعلمونا ليه)
لدينا تخصصات نادرة وهامة جدا ويتطلب الحصول عليها مجاميع عالية في الثانوية العامة وكليات مرموقة يتطلع إليها الجميع لنجدها تعمل في مجالات يستطيع أي خرج دبلوم صنايع أن يقوم بها فنهدر طاقتهم وتخصصاتهم ..
أعلم أني لو قرأت مقدمة المقال على أي قارئ فحديثي سيكون ذا شجون ويسرد لي الكثير والكثير من قصص معارفه وأقاربه من خرجي هندسة وحاسبات وكليات مرموقة يعمل سائق تاكسي أو بائعا في محل ملابس أو مروجا أو مندوبا للمبيعات، وكل خريج يعمل في غير تخصصه تجد وراءه ألف حكاية وحكاية .
فيمتلئ القلب حزنا وكمدا على تلك الطاقة المهدورة التي لو توافرت لها الظروف لأبدعت في مجالها .
متى يدرك المسؤولون أن مصر من أكثر دول العالم التي تتمتع بثروة بشرية من شباب لديهم الكفاءة ليبنوا دولا كاملة ويصنعوا نهضتها .. فنحن الذين صنعنا نهضة غالبية الدول العربية بسواعد وعقول شبابنا، منهم من حمل الجميل ومنهم من أنكره :
علمته الرماية فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فما قال قافية هجاني
نعود إلى حال شبابنا اليوم الذين لا يجدون من يقدرهم، ولا من يأخذ بأيديهم إلى الطريق السليم الذي منه يبنون مستقبلهم، ومنه تستطيع الدولة أن تستفيد منهم ..
الشباب محبط والرؤية أمامه غائمة والانتماء ضعيف، وحلم السفر أصبح يراود الفقير قبل الغني فليس التقدير المادي فقط هو مطمح آمال الشاب بل التقدير الأدبي أيضا والذي يتحقق بأن يعمل في مجال يتناسب وقدراته كي يبدع ويحقق طموحه .
آلمتني هذه النكتة حين سمعتها :
سأل مواطن أمريكي مواطنا مصرياً : ما أحلامك ؟
قال : وظيفه و بيت و زوجه … .
قال المواطن الامريكي : انا لا اسألك عن حقوقك .. أنا اسألك عن أحلامك !!!!
أبسط حقوقنا أحلام، تخيلوا..
دعوني أتساءل :
أولا : كم يبلغ عدد حملة الماجستير والدكتوراه في مصر ؟
ثانيا : ماذا فعلت الدولة بعلمهم ؟
الإجابة عن هذا السؤال وحده تغني عن ألف مقال ..
وفي النهاية :
أنقذوا ثروتنا البشرية .. ضعوا الأمور في نصابها .