هل تخيلت يوما ما مريضا عقليا يصبح رئيسا لدولة من أعظم دول العالم ؟
يندرج تحت هذا السؤال عشرات الأسئلة الفرعية، فضلا عن التشكيك في المعلومة من جذورها ! وأراك محقا.. ولكنها الحقيقة الصادمة فقد حدثت في دولة عظمى وهي فرنسا !
ألمح في رأسك تلك الأسئلة التي انحدرت من انفعال التعجب والدهشة المليئة بالاستنكار والامتعاض وكل معاني الصدمة، فتتساءل :
ما مؤهلاته للعمل كرئيس؟ لماذا حكم وهو مجنون؟ أي مرض لديه؟ هل هو مجنون فعلا أم أنه مصاب بمرض نفسي ؟ كيف انتخبه شعبه ؟ هل لاحظ أحد جنونه ؟
خذ عندك :
حدث بالفعل في فرنسا عام 1920 أن حكم مريض عقلي يدعى بول دي شانيل البلاد لمدة من الزمن مليئة بما هو غريب وعجيب !
ولد بول دي شانيل عام 1855 في مدينة صغيرة تقع بالقرب من العاصمة البلجيكية بروكسل حيث كان والده يعيش هناك في منفاه القسري بسبب كونه أحد المعارضين لحكم الإمبراطور نابوليون الثالث، فتم عقابه بالنفي، وهناك تعلم في مدارس بلجيكا .
بعد أن استقرت الأمور عاد دي شانيل إلى فرنسا ودرس المحاماة وكان يتمتع بخفة ظل جعلته محبوبا ممن حوله حتى إن بعضهم عرض عليه الترشح للبرلمان استنادا إلى شعبيته وخفة ظله وطريقته الكوميدية التي تعجب قطاعا عريضا من الشعب .. الغريب أنه نجح في الانتخابات ! وصار عمنا دي شانيل نائباً في البرلمان عن منطقة “أور ولوار” وكان يثير قضايا غريبة لا تخطر على بال أحد ! ويصيح فينال إعجاب الجميع ! بل رأى فيه بعضهم صورة الرئيس الملهم الذي سيخرج فرنسا من كل أزماتها بعد الحرب العالمية !
فتم ترشحه لرئاسة فرنسا العظمى وفي 9 الثاني يناير 1920 تم انتخابه رئيسأً للجمهورية، واستلم منصبه في 18 فبراير!.
كانت حياته الشخصية بها كثير من الغموض وعندما يظهر أمام الناس يبدو كأنه كاريزما وشخصية رائعة، ولكن هل سيستمر الغموض بعد توليه منصب دولة من أعظم دول العالم وأقواها ؟؟
إذا أردت أن تخدع على بعض الناس بعض الوقت فلن تستطيع ان تخدع كل الناس كل الوقت وهذا ما حدث …
وبما أن كل إناء ينضح بما فيه وعلى رأي المثل الشعبي (اللي بيزمر مابيخبيش ذقنه) بعد تنصيبه بفترة قصيرة بدأت تظهر على الرئيس تصرفات غير طبيعية !
خذ عندك :
ذات مرة حين كان يلقي خطاباً في مدينة نيس و رأى أن الجمهور سعيد بخطابه، أعاد الخطاب مرة أخرى (تقولش مطرب في فرح شعبي )!
ومن طرائفه أنه في مدينة مينتون تخيل نفسه عروسا ترمي ببوكيه الورد للمعازيم فأرسل قبلات للحشد والتقط زهورا سقطت في الوحل يقوم بسلامته ونصاحته يرمي الورود إلى الجمهور بطينتها !
وعلى غرار ما حدث للمبي لما وضعوا مخ اللص الأهبل في رأسه وهو مأمور السجن المهيب رياض المنفلوطي حين شاهد سيارة البوكس تنتظره تحت مسكنه فصرخ رعباً في زوجته وقال لها : بلغتي عني … في إحدى زيارات دي شانيل لكاب سانت مارتن فوجيء رئيس البلدية خلال زيارة رسمية، بأن دي شانيل يقول إنه سيرجع إليه لاحقا لأنه حاليا محاصر بعناصر الشرطة (معتبرا الحراس والفرق الوطنية عناصر شرطة) ! .
وفي الـ10 من سبتمبر 1920، في الساعة 5 صباحا، وجده البستاني في قصر الرئاسة بقلعة رامبوييه (الرئيس بنفسه) مشمرا بنطاله واقفا في منتصف حوض يحاول صيد سمك الشبوط بيده !
وفي يوم آخر في نفس المكان، ترك نائبين للبرلمان حضرا لزيارته وراح بسلامته يتسلق إحدى الأشجار ليحضر لهما بعض الثمار (شوف يا جدع الكرم بتاعه)
و في إحدى المناسبات الرسمية قدمت له طفلة صغيرة باقة من الورد لكن يبدو أن شكل الطفلة لم يعجبه فقذف في وجهها باقة الورد !!!
أما الذي لفت انتباه العالم فتلك الحادثة الغريبة :
حدث ذات يوم أن استقبل سفير بريطانيا العظمى في مكتبه، ظل السفير منتظرا فترة طويلة وفي النهاية خرج له الرئيس دي شانيل
خرج إليه وهو … (يادي الفضايح)
كان الريس فلتة عصره وعبقري زمانه وأوانه عاريا تماماً إلا من الوشاح الرئاسي ( يبدو أنه يريد أن يوصل رسالة ما إلى بريطانيا الخصم التقليدي لفرنسا وأراد أن يبلغها للسفير بطريقة خاصة جدا (الله يكسفه)
بدأت رائحة الرئيس المخبول تفوح لكن لم يكن هناك من يجرؤ على الاعتراض على رئيس دولة كفرنسا خاصة أن فرنسا تخاف على سمعتها كثيرا ..
ولكن هل سيظل الحال مع هذا الرئيس غريب الأطوار شاذ التصرفات على هذا المنوال ؟
بالطبع لا فقد جاءت الحادثة التي قصمت ظهر البعير و لفتت نظر الرأي العام بشكل واسع إلى الحالة العقلية للرئيس غير الطبيعي
والتي أجبرت الرئيس على الاستقالة من منصبه. ففي ليلة الـ 23 مايو 1920 استقل الرئيس بول دي شانيل قطارا للوصول إلى مدينة مونتبريسون لافتتاح نصب تذكاري للحرب العالمية الأولى، وبما أنه رئيس الجمهورية فقد خُصصت له مقصورة خاصة بينما ينام جميع مرافقيه في المقصورات الأخرى تحت حراسة خاصة .
بدأ القطار رحلته من محطة ليون ونام الجميع، وبما ان سعادته مشاغله كثيره فقد تناول برشامة مهدئة كي يستطيع النوم، ولكن يبدو كأن الصنف كان مضروبا وليس أصليا ولم يستطع أن يخمد سعادته فلم يتمكن من النوم .. ماذا يفعل جنابه بعبقريته الفذة ؟
تفتق ذهنه العبقري عن فكرة خارج الصندوق ليكسر الملل وفي الحقيقة أنها لا تمت للصندوق ولا للمنطق بأي صلة .. فتح النافذة وقفز منها إلى السكة الحديد، ولحسن الحظ كان القطار يسير بسرعة بطيئة 50 كيلومترا/ ساعة . في منطقة بينها وبين باريس 110 كلم من ، قبل محطة مونتارجي!
فوجيء شرطي أثناء جولة روتينية بالمنطقة برجل بملابس النوم وحافي القدمين يمشي على خط السكة الحديدية فاقترب منه، وسأله ما الذي يفعله هناك فأجابه الرجل: “يا صديقي، ستكون مفاجأة لك، لعلك لن تصدقني، ولكني رئيس الجمهورية”.
كان الجميع في القطار يغط في سبات عميق والحرس يعتقدون أن جناب الرئيس نائم في المقصورة الخاصة به وصعق حارس الرئيس الشخصي عندما دخل مقصورته ولم يجده، والنافذة مفتوحة !!
كاد يغمى على الحارس المسكين الذي ظن أن الريس سقط من النافذة أثناء نوم الجميع وأصيب بحالة من الرعب فالعقوبة لا تحمد عقباها والمحاكمة تنتظره !
أطلق دوي الإنذار في كل أنحاء القطار.. انتشرت حالة من الهلع في للبحث عن الرئيس وتم إخطار الجيش والشرطة والمخابرات وكل أجهزة الدولة السيادية ، دون جدوى فقد فشلوا في تحديد موقع الرئيس المختفي وتجاهلوا رسالة الشرطي الذي أبلغ أن رجلا حافي القدمين يرتدي (بيجامة) في سكة الحديد يدعي بأنه رئيس الجمهورية !
بس يا سيدي كل ما حدث من الرئيس في وادٍ وتلك الأخيرة في وادٍ آخر.. وفي الحقيقة كثير من القصص السابقة لم تكن قد تكشفت وكانت طي الكتمان، لكن الحادثة الأخيرة لم يكن السكوت عنها ممكنا، وبدأت تتسرب أخبار وخبايا هذا المأفون ، وأصبح الرئيس الفرنسي موضع سخرية الجميع تناوله رسامو الكاريكاتير الذين وصفوه بالمجنون بل وصل الأمر إلى قيام بعض الفنانين بعمل سلسلة من الأغاني الساخرة، تفضح السلوكيات الشاذة للرئيس .
وتجرأت جريدة لوموند الفرنسية في عدد1 مايو 1948، بالحديث عن الحالة المرضية التي يعاني منها رئيس الجمهورية، ونشرت ملفا أعده حد العلماء النفسيين عن الحالة العقلية للرئيس حيث أوضح الدكتور لوجري بأن الحالة التي تعرض إليها الرئيس في القطار تعرف بـ ” متلازمة إيلبينور Elpenor ” وهي حالة من الارتباك خلال صحوة غير الكاملة وشرح الحالة تفصيلا .
وبعد تزايد الضغط الشعبي وإطلاق النكات الساخرة من كل كبير وصغير في فرنسا أصبح أضحوكة أوروبا لكنها وليس فرنسا فقط.. الأمر الذي لا يمكن السكوت عليه، فلم تجد السلطات الفرنسية إلا المطالبة بإقالة الرئيس وبالفعل تحت هذا الضغط المتواصل وافق الرئيس على توقيع استقالته يوم 21 سبتمبر 1920 بعد سبعة أشهر قضاها في حكم دولة من أقوى دول العالم وتوفي بعدها بعامين في 22 أبريل من عام 1922 في باريس ورحل في صمت حيث لم يهتم أحد بوفاته ولم تفرد الصحف له إلا خبرا صغيرا يفيد بوفاة المخبول الذي حكم فرنسا .. فذهب غير مأسوف عليه .