الدكتور/علي عبدالظاهر الضيف
يحكى أن رجلاً كانت وظيفته ومسؤوليته هي الإشراف على الأباريق لحمام عمومي، والتأكد من أنها مليئة بالماء بحيث يأتي الشخص ويأخذ أحد الأباريق ويقضي حاجته ،ثم يرجع الإبريق إلى صاحبنا، الذي يقوم باعادة ملئها للشخص التالي وهكذا.
في إحدى المرات جاء شخص (كان مزنوق وعلى آخره )وكان متعجلا فخطف أحد هذه الأباريق بصورة سريعة وانطلق نحو دورة المياه، فصرخ به مسؤول الأباريق بقوة وأمره بالعودة اليه فرجع الرجل على مضض، وهو يصارع (زنقته)
وأمره مسؤول الأباريق بأن يترك الإبريق الذي في يده ويأخذ آخر بجانبه،فأخذه الشخص ثم مضى لقضاء حاجته، وحين عاد لكي يسلم الإبريق سأل مسؤول الأباريق:
لماذا أمرتني بالعودة وأخذ إبريق آخر مع أنه لا فرق بين الأباريق،؟!
فقال مسؤول الأباريق بتعجب:
إذن ما عملي هنا ؟!
هذا الموظف صاحب الوظيفة البسيطة يرى نفسه سلطانا للأباريق ومن هذه الوظيفة يستمد مكانته فيأمر وينهى ويوجه ويخطط وحين يتسلم العهدة الإبريقية الثمينة تنتفخ أوداجه فخرا وإعجابا وينتقد سلوكيات الناس والفوضى التي تجتاح أبناء المجتمع لعدم خضوعهم للنظام الإبريقي !
،مع أن طبيعة عمله لا تستلزم كل هذا ولا تحتاج إلى التعقيد، ولكنه يريد أن يصبح سلطان الأباريق!
بالنظر إلى هذه الفئة من الناس نجد عقدة نقص متغلغلة يعانيها ذلك الموظف حين يتعامل مع الجمهور.
وفِي الحقيقة هو ليس ببعيد عنا فسلطان الأباريق يتشكل في صورة موظف وفِي صورة بواب عمارة وفِي صورة فرد أمن !
تجده حين تذهب إلى المرور لتجديد رخصة القيادة فتجد سيادته ينظر لك باشمئزاز ويتكلم بالإشارة ولا ينطق إلا في الضرورة القصوى ليقول لك (فوت علينا بكرة )!
أو (يلطعك) ساعات في الشمش حتى يتكرم عليك ويعطيك النموذج الذي تملؤه لاستكمال الأوراق.. وأحيانا يجعلك تلف كعب داير لو انتقدت طريقته أو لمحت إلى أن العملية لا تستحق كل هذا العناء !
أحيانا يتشكل سلطات الأباريق في صورة بواب العمارة الذي يتعمد تعطيل المصعد كي يشعر بأهميته حين يناديه أحد السكان مستغيثا به ليجد حلا له !
بالطبع لا أنكر أن يعتز الشخص بعمله ولكن المبالغة في التضخيم من قيمة عمل بسيط لا يستحق ان يعذب الناس من أجله هو الكارثة والمشكلة والمرض الاجتماعي الذي نتمنى استئصاله من أشخاص لديهم مركب نقص يصيبك بالاكتئاب والمعاناة الشديدة يتلذذ بتجميع المواطنين حوله لإنجاز معاملاتهم كي يسمع عبارات الاستعطاف والترجي والدعوات التي تنصب فوق رأسه من المواطنين العجائز حين يتعطف عليهم ويسلمهم الأوراق وفِي الحقيقة يلعنونه و آباءه وأجداده في سرهم !
حدث أن قابلت سلطان الأباريق في صورة شاويش في مركز التدريب الذي لم يعطني تصريح الاجازة وأخّرني ساعتين عن اللحاق بزملائي وعاقبني بالمكوث تحت حرارة الشمس لا لشيء إلا لأنني لم أتقدم له بأسمى آيات العرفان بأن سلمنا تصاريح الخروج التي أمر بها قائد الكتيبة !
فشكوت للضابط ما حدث فأعطاني تصريحا جديدا وقال لي (سيبك منه …اللي فيه طبع عمره ماهايغره)
تمثل أمامي في صورة سائق أوتوبيس النقل العام الذي يسير سير السلحفاة ويتسبب في تأخير الناس عن أعمالهم وتعرضهم للخصم والجزاءات بسببه إذا انتقد أحد الركاب طريقته في قيادة الباص وكأنه حمل فيه أجولة رمال وليس بني آدم !
سلطان الأباريق وجدته في صورة موظفة تحمل شهادة الدبلوم تتعامل مع طلبة الدكتوراه بمنتهى التعالي وتتعمد تعطيل الأوراق لأسابيع وعندما تنجز المعاملة تضخم فيما فعلته من مجهود كي تذهب لحجرة المدير الملاصقة لأخذ توقيعه !
في الحقيقة هي تتعامل مع الطلبة كلهم بنفس المنوال ويزداد التعنت بارتفاع المستوى الدراسي للطالب من بكالوريوس الى ماجستير الى دكتوراه لتتناسب طرديا معاناة الطالب حسب درجته العلمية بسبب مدام (……) التي تحقد على أصحاب الشهادات والدراسات العليا !
سمعتها بأذني ذات يوم تتفاخر أمام زميلاتها بأن حملة الدكتوراه يقفون مذلولين أمامها في انتظار تعطفها عليهم بتسليمهم أوراق اعتماد الجامعة لشهادة الدكتوراه التي ناقشوها!
في الحقيقة إن الحديث ذو شجون وذو نكد وذو (حسبنا الله ونعم الوكيل)
وبالنظر الى ديننا الراقي الجميل نجد الرسول قد فطن الى هؤلاء بقوله
“حرمت النار على كل هيّن ليّن ….”
ودعائه لمن يرفقون بالناس بقوله :
«اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به» رواه مسلم.
فاللهم لا تسلط علينا أحدا من سلاطين الأباريق أبدا .
وفِي النهاية أوجه رسالة إلى أصحاب الجلالة سلاطين الأباريق قالها ابن القيم رحمه الله منذ مئات السنين :
“إن في قضاء حوائج الناس لذة لا يَعرفها إلا من جربها، فافعل الخير مهما استصغرته فإنك لا تدري أي حسنة تدخلك الجنة”.