هل سمعتم بالخليفة الأحمر من قبل ؟
تعالوا نتعرف عليه من خلال مشهدين تاريخيين :
المشهد الأول :
الزمان : منذ أكثر من خمسمئة عام، بالتحديد عام 1491 م
المكان : الأندلس
يتقدم الخليفة أبو عبد الله محمد بن الأحمر ويقوم بتسليم مفاتيح مجمع الحمراء إلي الملك فرناندو، قائلاً له:
“هذه لك أيها الملك، وفقاً لمشيئة الله، فاستخدم انتصارك برأفة واعتدال” ويغالب دموعه ويركب حصانه ويقف عند الربوة الصخرية الأخيرة، التي تطل على غرناطة ويلقي نظرة أخيرة، وينهار باكيا، فقالت له والدته الأكثر رجولة منه: “حسناً تفعل، ابك مثل النساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال !
ومن يومها انتهى الوجود الإسلامي في الأندلس وتحولت غالبية المساجد إلى كنائس، وارتكبت المذابح في المسلمين وتعرضوا لأبشع ألوان العذاب.
المشهد الثاني
الزمان : قد مر على الحدث الأول خمس مئة سنة وتحديدا عام 1981
المكان : إسبانيا
يقوم الخليفة الأحمر بتسليم مفاتيح كنيسة (سانتا كلارا) للمسلمين، وإعادتها إلى أصلها (مسجد القاضي أبي عثمان) أكبر مساجد قرطبة، وسمح للمسلمين برفع الأذان للمرة الأولى منذ 500 سنة، وأداء صلاة العيد، وحين اعترض كبير الأساقفة قال الخليفة الأحمر: “إسبانيا بلد الحريات الدينية.. لم يعيّنك أحد مطراناً عليَّ، أنا عمدتك وأنت لست مطراني !
شتات بين المشهدين والخليفتين (محمد بن الأحمر و الخليفة الأحمر) !
سيزول العجب عند تعرف شخصية الخليفة الأحمر ..إنه :
خوليو أنجيتا كونزاليس
احفظوا هذا الاسم جيدا …
هو ابن قرية فوينخيرولا (“سهيل” سابقا) القريبة من مالقة في منطقة الأندلس، من مواليد عام 1941 عمل مدرسا للتاريخ، وكان من أتباع الزعيم التاريخي سانتياغو كاريو خلال وبعد فترة العمل السري أيام ديكتاتورية فرانكو.
في المرحلة الانتقالية تزعم الشيوعيين واكتسح أصوات الصناديق ونال رضا الناخبين القرطبيين، واستمر في منصب عمدة قرطبة بين1979 1986–
كما شغل عدة مناصب سياسية منها : منسق حزب اليسار المتحد بين 1989 و1999، والأمين العام للحزب الشيوعي الإسباني من 1988 إلى 1998. وعضو البرلمان الإسباني
امتاز منذ صغره بقوة الحجة وسعة الثقافة، والدعوة الى السلام وانحيازه إلى العمال والضعفاء والفقراء والعدالة والمحبة، وامتلاك شخصية (كاريزما) مؤثرة، فكان خطيباً بارعاً فاكتسب شعبية جارفة أهَّلته إلى أن يكتسح انتخابات مقاطعة قرطبة، ويصبح عمدتها .
قرأ التاريخ الإسلامي بعمق، وبنظرة موضوعية فاتخذ المسلك الصعب بأن يدعم الأقليات وفئات العمال طوال حياته السياسية والوقوف في وجه الإسبان بالتمسك بأن تحافظ مدينة قرطبة على إرثها الإسلامي الذي يعد جزءاً لا يتجزأ من تاريخها، إذ خضعت للحكم الأندلسي لـ خمسة قرون.، وهنا يزول العجب بتلقيب الإسبان له بـ “الخليفة الأحمر”.فلم يكن هناك من يدافع عن الإرث الإسلامي للمدينة الأندلسية غيره .
تنقسم حياته إلى أقسام ثلاثة :
العمل أستاذا للتاريخ، ثم التفرغ للعمل السياسي، ثم اعتزال السياسة وتأليف الكتب. ورغم اعتزاله العمل السياسي إلا أنه استمر في إلقاء المحاضرات وتعبئة الشباب بخطابه الذي يتمتع بصدى كبير في إسبانيا خصوصا بين أتباعه وحتى بين خصومه .
فتح على نفسه النار وجابه حروبا شعواء حين اضطر إلى أن يقف منفردا أمام أساقفة المدينة الذين كانوا دائماً ما يسعون إلى الاستيلاء على الموروثات الدينية حتى بلا صكوك ملكية، كما جابه اليمين الإسباني والكنيسة الكاثوليكية وكذلك المتخوفين من عودة الإسلام إلى إسبانيا، ما جعل الكنيسة والصحافة الإسبانية تنتقد خطورة “الخليفة الأحمر” وتهاجمة في كل مناسبة، واتهامه بأنه سلًّم المدينة إلى المسلمين، وفي رسالة ردٍّ قاسية على مطران المدينة الذي انتقد مبادرته، قال أنغويتا: “إسبانيا بلد الحريات الدينية.. لم يعيّنك أحد مطراناً عليَّ، أنا عمدتك وأنت لست مطراني”
كما أسهم في عقد المؤتمر الأول للمسلمين الأوروبيين في إشبيلية، وكان من أشد المعارضين للحرب على العراق، ومن أشهر أقواله : “فلتسقط الحروب وكل الأوغاد الذين يدعمونها”، لتصبح جملته هذه شعار المناهضين للحرب وقتها والمطالبين بإنهاء الحرب على العراق .
وفي هذه الأثناء كان الفيلسوف الفرنسي روچيه جارودي المسلم الذي تعرض لهجوم شرس أدى إلى مقاطعة إعلامية وملاحقة قضائية، وذلك بسبب انتقاده مجازر إسرائيل في لبنان عام1982 ، فلجأ إلى أنغويتا جونزاليس الذي فتح له المجال للإقامة بقرطبة والترحيب بمشروعاته التي تقوم على إحياء هذا الماضي لإلقاء الضوء على المستقبل، وعرض عليه أن يجعل من برج كالاهورا، وهي قلعة على حافة الوادي الكبير مركزاً لمشروع إقامة معهد للحوار بين الثقافات، يتمثل في متحف سمعي بصري لإحياء ثقافة الأندلس والتركيز على فترات التعايش بين الثقافة المسيحية واليهودية والإسلامية.
وفي أواخر حياته تخلى الخليفة الأحمر، كما كان يلقب، عن قيادة حزبه و ائتلافه، و تنازل عن تقاعده البرلماني، و عاد لوظيفته كأستاذ للتاريخ في ثانوية مغمورة بمدينته قرطبة ! لدرجة أن تلامذته وزملاءه الأساتذة لم يصدقوا يومها رؤية السياسي المفوه والخطيب البرلماني الماهر وهو يتجه نحو قسم التدريس! ، رغم أنه لم يترك السياسة مع تخليه عن المسؤوليات التنظيمية و العمومية، بل مارسها إلى آخر أيامه بالمشاركة، وهو المثقف، بالكلمة و الكتابة والحضور في الفعاليات المدنية و السياسية، و منها المناصرة لتحالف اليسار الموحد .
توفي الخليفة الأحمر منذ ثلاثة أشهر بعد إصابته بأزمة قلبية لم يصمد أمامها بعد إصابته بالكورونا، وكان آخر ظهور لأنغويتا (78 عاماً)، في مقطع فيديو قرأ فيه بياناً خلال فترة الحجر الصحي من منزله، دعا فيه إلى حلّ سياسي وبيئي واقتصادي لوباء فيروس الكورونا.
وكان آخر ما قاله : “يعتمد الغد في إسبانيا على الكيفية التي تعاملنا بها مع هذا اليوم. وغداً سيعيش أطفالنا وأحفادنا والأجيال القادمة من الإسبان في ضوء ما فعلنا اليوم. إنها مسألة مسؤولية جماعية: الاختيار بين المستقبل من أجل الغالبية العظمى أو الكارثة”
فهل علمنا بمكانته إلا بعد وفاته ؟
الإجابة مخجلة !
وقد يثار سؤال لدى الكثيرين حول إسلام خوليو كونزاليس، وظلت علامة استفهام، وثارت كثير من الشائعات حول إسلامه، فهو لم يعلن إسلامه في أي وسيلة إعلامية حتى وفاته، ولكن ابن صديقه الحميم حمزة علي الكتاني بعد وفاته في مايو الماضي كتب تغريدة حسمت تلك الشائعات التي رافقته طيلة حياته حين رثاه بقوله :
“اليوم أغمض عينيه أول مسؤول يخدم القضايا الإسلامية في الأندلس بقوة بعد سقوط غرناطة منذ نحو خمسمئة عام، وقد صرَّح لوالدي بأنه مسلم سراً، وبأنه لم يعلن إسلامه، لأن خدمته للمسلمين من موقعه السياسي كغير مسلمٍ أقوى وأفضل من خدمته إذا أعلن إسلامه” .
فرحمة الله على الخليفة الأحمر الذي ظل مدافعا عن الحق حتى آخر لحظات حياته .
وعليه العوض في المسلمين الذين يعرفون عن حمو بيكا ومحمد رمضان وحسن شاكوش وغير هؤلاء ..
أضعاف أضعاف ما يعرفون عن مواطن الاقتداء .. !
تعالوا نتعرف عليه من خلال مشهدين تاريخيين :
المشهد الأول :
الزمان : منذ أكثر من خمسمئة عام، بالتحديد عام 1491 م
المكان : الأندلس
يتقدم الخليفة أبو عبد الله محمد بن الأحمر ويقوم بتسليم مفاتيح مجمع الحمراء إلي الملك فرناندو، قائلاً له:
“هذه لك أيها الملك، وفقاً لمشيئة الله، فاستخدم انتصارك برأفة واعتدال” ويغالب دموعه ويركب حصانه ويقف عند الربوة الصخرية الأخيرة، التي تطل على غرناطة ويلقي نظرة أخيرة، وينهار باكيا، فقالت له والدته الأكثر رجولة منه: “حسناً تفعل، ابك مثل النساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال !
ومن يومها انتهى الوجود الإسلامي في الأندلس وتحولت غالبية المساجد إلى كنائس، وارتكبت المذابح في المسلمين وتعرضوا لأبشع ألوان العذاب.
المشهد الثاني
الزمان : قد مر على الحدث الأول خمس مئة سنة وتحديدا عام 1981
المكان : إسبانيا
يقوم الخليفة الأحمر بتسليم مفاتيح كنيسة (سانتا كلارا) للمسلمين، وإعادتها إلى أصلها (مسجد القاضي أبي عثمان) أكبر مساجد قرطبة، وسمح للمسلمين برفع الأذان للمرة الأولى منذ 500 سنة، وأداء صلاة العيد، وحين اعترض كبير الأساقفة قال الخليفة الأحمر: “إسبانيا بلد الحريات الدينية.. لم يعيّنك أحد مطراناً عليَّ، أنا عمدتك وأنت لست مطراني !
شتات بين المشهدين والخليفتين (محمد بن الأحمر و الخليفة الأحمر) !
سيزول العجب عند تعرف شخصية الخليفة الأحمر ..إنه :
خوليو أنجيتا كونزاليس
احفظوا هذا الاسم جيدا …
هو ابن قرية فوينخيرولا (“سهيل” سابقا) القريبة من مالقة في منطقة الأندلس، من مواليد عام 1941 عمل مدرسا للتاريخ، وكان من أتباع الزعيم التاريخي سانتياغو كاريو خلال وبعد فترة العمل السري أيام ديكتاتورية فرانكو.
في المرحلة الانتقالية تزعم الشيوعيين واكتسح أصوات الصناديق ونال رضا الناخبين القرطبيين، واستمر في منصب عمدة قرطبة بين1979 1986–
كما شغل عدة مناصب سياسية منها : منسق حزب اليسار المتحد بين 1989 و1999، والأمين العام للحزب الشيوعي الإسباني من 1988 إلى 1998. وعضو البرلمان الإسباني
امتاز منذ صغره بقوة الحجة وسعة الثقافة، والدعوة الى السلام وانحيازه إلى العمال والضعفاء والفقراء والعدالة والمحبة، وامتلاك شخصية (كاريزما) مؤثرة، فكان خطيباً بارعاً فاكتسب شعبية جارفة أهَّلته إلى أن يكتسح انتخابات مقاطعة قرطبة، ويصبح عمدتها .
قرأ التاريخ الإسلامي بعمق، وبنظرة موضوعية فاتخذ المسلك الصعب بأن يدعم الأقليات وفئات العمال طوال حياته السياسية والوقوف في وجه الإسبان بالتمسك بأن تحافظ مدينة قرطبة على إرثها الإسلامي الذي يعد جزءاً لا يتجزأ من تاريخها، إذ خضعت للحكم الأندلسي لـ خمسة قرون.، وهنا يزول العجب بتلقيب الإسبان له بـ “الخليفة الأحمر”.فلم يكن هناك من يدافع عن الإرث الإسلامي للمدينة الأندلسية غيره .
تنقسم حياته إلى أقسام ثلاثة :
العمل أستاذا للتاريخ، ثم التفرغ للعمل السياسي، ثم اعتزال السياسة وتأليف الكتب. ورغم اعتزاله العمل السياسي إلا أنه استمر في إلقاء المحاضرات وتعبئة الشباب بخطابه الذي يتمتع بصدى كبير في إسبانيا خصوصا بين أتباعه وحتى بين خصومه .
فتح على نفسه النار وجابه حروبا شعواء حين اضطر إلى أن يقف منفردا أمام أساقفة المدينة الذين كانوا دائماً ما يسعون إلى الاستيلاء على الموروثات الدينية حتى بلا صكوك ملكية، كما جابه اليمين الإسباني والكنيسة الكاثوليكية وكذلك المتخوفين من عودة الإسلام إلى إسبانيا، ما جعل الكنيسة والصحافة الإسبانية تنتقد خطورة “الخليفة الأحمر” وتهاجمة في كل مناسبة، واتهامه بأنه سلًّم المدينة إلى المسلمين، وفي رسالة ردٍّ قاسية على مطران المدينة الذي انتقد مبادرته، قال أنغويتا: “إسبانيا بلد الحريات الدينية.. لم يعيّنك أحد مطراناً عليَّ، أنا عمدتك وأنت لست مطراني”
كما أسهم في عقد المؤتمر الأول للمسلمين الأوروبيين في إشبيلية، وكان من أشد المعارضين للحرب على العراق، ومن أشهر أقواله : “فلتسقط الحروب وكل الأوغاد الذين يدعمونها”، لتصبح جملته هذه شعار المناهضين للحرب وقتها والمطالبين بإنهاء الحرب على العراق .
وفي هذه الأثناء كان الفيلسوف الفرنسي روچيه جارودي المسلم الذي تعرض لهجوم شرس أدى إلى مقاطعة إعلامية وملاحقة قضائية، وذلك بسبب انتقاده مجازر إسرائيل في لبنان عام1982 ، فلجأ إلى أنغويتا جونزاليس الذي فتح له المجال للإقامة بقرطبة والترحيب بمشروعاته التي تقوم على إحياء هذا الماضي لإلقاء الضوء على المستقبل، وعرض عليه أن يجعل من برج كالاهورا، وهي قلعة على حافة الوادي الكبير مركزاً لمشروع إقامة معهد للحوار بين الثقافات، يتمثل في متحف سمعي بصري لإحياء ثقافة الأندلس والتركيز على فترات التعايش بين الثقافة المسيحية واليهودية والإسلامية.
وفي أواخر حياته تخلى الخليفة الأحمر، كما كان يلقب، عن قيادة حزبه و ائتلافه، و تنازل عن تقاعده البرلماني، و عاد لوظيفته كأستاذ للتاريخ في ثانوية مغمورة بمدينته قرطبة ! لدرجة أن تلامذته وزملاءه الأساتذة لم يصدقوا يومها رؤية السياسي المفوه والخطيب البرلماني الماهر وهو يتجه نحو قسم التدريس! ، رغم أنه لم يترك السياسة مع تخليه عن المسؤوليات التنظيمية و العمومية، بل مارسها إلى آخر أيامه بالمشاركة، وهو المثقف، بالكلمة و الكتابة والحضور في الفعاليات المدنية و السياسية، و منها المناصرة لتحالف اليسار الموحد .
توفي الخليفة الأحمر منذ ثلاثة أشهر بعد إصابته بأزمة قلبية لم يصمد أمامها بعد إصابته بالكورونا، وكان آخر ظهور لأنغويتا (78 عاماً)، في مقطع فيديو قرأ فيه بياناً خلال فترة الحجر الصحي من منزله، دعا فيه إلى حلّ سياسي وبيئي واقتصادي لوباء فيروس الكورونا.
وكان آخر ما قاله : “يعتمد الغد في إسبانيا على الكيفية التي تعاملنا بها مع هذا اليوم. وغداً سيعيش أطفالنا وأحفادنا والأجيال القادمة من الإسبان في ضوء ما فعلنا اليوم. إنها مسألة مسؤولية جماعية: الاختيار بين المستقبل من أجل الغالبية العظمى أو الكارثة”
فهل علمنا بمكانته إلا بعد وفاته ؟
الإجابة مخجلة !
وقد يثار سؤال لدى الكثيرين حول إسلام خوليو كونزاليس، وظلت علامة استفهام، وثارت كثير من الشائعات حول إسلامه، فهو لم يعلن إسلامه في أي وسيلة إعلامية حتى وفاته، ولكن ابن صديقه الحميم حمزة علي الكتاني بعد وفاته في مايو الماضي كتب تغريدة حسمت تلك الشائعات التي رافقته طيلة حياته حين رثاه بقوله :
“اليوم أغمض عينيه أول مسؤول يخدم القضايا الإسلامية في الأندلس بقوة بعد سقوط غرناطة منذ نحو خمسمئة عام، وقد صرَّح لوالدي بأنه مسلم سراً، وبأنه لم يعلن إسلامه، لأن خدمته للمسلمين من موقعه السياسي كغير مسلمٍ أقوى وأفضل من خدمته إذا أعلن إسلامه” .
فرحمة الله على الخليفة الأحمر الذي ظل مدافعا عن الحق حتى آخر لحظات حياته .
وعليه العوض في المسلمين الذين يعرفون عن حمو بيكا ومحمد رمضان وحسن شاكوش وغير هؤلاء ..
أضعاف أضعاف ما يعرفون عن مواطن الاقتداء .. !