بقلم الدكتور/علي عبدالظاهر الضيف
دخل الشاب أحمد الدمرداش سينما علي بابا وهنالك حدث له ما يلي .. الطوابير طويلة، وموظف الأمن علي الباب أعطى كل منا نظارة كلها نفس النوع ، وتلا علينا التعليمات التي من أهمها أن نظل لابسين النظارة طوال فترة العرض.
وطيلة المسافة إلى القاعة توجد لافتات تحذيرية من خطورة خلع النظارة أثناء عرض الفيلم، أقلها إنك سوف تتعرض للإصابة بالعمى، وأبسطها أنك لن تفهم الفيلم !!
دخلنا كلنا بعددنا الهائل وانطفأت الأنوار وأنا أرتدي النظارة مثل بقية المشاهدين .
لكنني من آن لأخر ينتابني الفضول لأتأكد أني لست وحدي من يرتدي تالك النظارة، وأن الجميع ملتزم بالتعليمات، قلبت النظر حولي في القاعة فوجدت جميع الحضور لابسا نظارته وملتزما بالتعليمات .
لكن ما لفت انتباهي أن أفراد الأمن موزعون في أركان القاعة بوجوه متجهمة ونظرات قلقة .. وغير مرتدين النظارت التي معنا !
افترضت حسن النية، وأشفقت عليهم، فهم يضحون بأنفسهم لإسعادنا، وفي سبيل أن تستمع بالرؤية معرضين أنفسهم لأخطار الإصابة بالعمى !
بدأ الفيلم ولا أخفي إعجابي به في البداية، فيلم جذاب فيه حركة و(أكشن) ورومانسية.
لكن وسط انشغالي بمتابعة أحداث الفيلم المثيرة والمشوقة تذكرت أفراد الأمن، وخفت أن يكون أحدهم قد أصيب بمكروه جراء عدم ارتداء تلك النظارة .. استرقت النظر إليهم فوجدتهم
واقفين كما هم، لكني لاحظت أن ملامح الوجه قد تغيرت من العبوس والقلق إلى الابتسامة، خاصة وهم يتبادلونها فيما بينهم، على عكس المشهد والهيئة التي كانوا عليها قبل الفيلم.
تعجبت متسائلاً .. الأمر يبدو عاديًا ولم يحدث لهم أي مكروه !
فلماذا يقصدنا الخطر ويتعداهم، وكأن الأشعة تفرق بين المشاهد ورجل الأمن !
بدأ الفضول يتخذ أشكالا من الوخزات التي تشكشك الجسد، ثم نما لدىّ الفضول حتى ظهرت له أنياب شرسة تكاد تقتلني !
فاتخذت القرار الخطير بخلع النظارة واستراق النظر إلى الشاشة !
ولكن بمجرد أن حركت يدي ناحيه النضارة سمعت صواتا تحذرني بشدة من خلعها !
تجاهلت الحذيرات و(عملت نفسي من بنها)، وتظاهرت بعدم السمع وخلعت النظارة، وكانت المفاجأة التي صدمتني…
ليس هناك أي شيء يعرض على الشاشة ، لا فيلم ولا مشاهد ولا حتى أسماء الممثلين!
كل ما كنت أتابعه وأشاهده مجرد (اشتغاله) وخداع.!
نظرت حولي لأجد قلة قليلة جدًا خلعوا النظارة مثلي مشدوهين من هول المفاجأة، موزعين على أنحاء القاعة، لكنهم قلة بسيطة جدًا لا تقارن بالأعداد الغفيرة التي تلبسها.
وفي لحظه وجدت فوق رأسي رجال الأمن يحاولون إلباسي النظارة بالقوة، وأنا أحاول مقاومتهم ورفعت صوتي غاضباً وأنا أقول:
لا أريد نظارتكم .. أريد أن أرى الحقيقة وصورة الدنيا الحقيقية !
وفي وسط هذا الصراع سمعت صوتاً من ورائي يصيح بي :
”يا أستاذ ما تسيبنا نتفرج وبلاش دوشه.. “
وصوت هاديء جاءني من على يميني خارجاً من رجل كبير في السن يقول بهدوء وحكمة الكبار :
”يابني اسمع الكلام وخليك لابسها، متبهدلش نفسك وخليك زينا وخلاص”
أما الفتاة التي تلبس على أحدث صيحات الموضة وتجلس خلفي فقد ضايقها صوتي وأخذت تتأفف وتبدي امتعاضها قائلة :
”أف .. أضعت علي فرصة الاستمتاع بالفيلم، أنت لا تحمل قلبًا، أما رأيت حنيه البطل وقلبه الكبير وشجاعته.؟ أفسدت علينا تلك اللحظات الرومانسية يا عديم الرومانسية .. تفوووووووووووووو !
وتصاعد صوت عمي الشيخ الجالس أمامي يقول:
” اتق الله يا زنديق. فإن هذا البطل يتبع نهج رسول الله .. والصالة ترد في نفس واحد ( عليه الصلاة والسلام !)
وفجأة ..وجدت نفسي أصعد إلى أعلى، وأفقت على المفاجأة بأن رأيت أفراد الأمن يرفعونني ويكتمون صوتي وأنا أحاول الصراخ لأنبه الناس إلى الخدعة، ولكن لا حياة لمن تنادي؛ فهناك من لم يسمع، وهناك من تجاهلني وتظاهر بعدم سماعي !
حملوني إلى باب القاعة وألقوا بي خارج السينما.
وظللت خارجها أنا والقليل ممن أدركوا الخدعة مثلي، وظلت البقية الغفيرة داخل السينما .
تجمعنا وأحضرنا (فشار) وأخذنا نشير إلى (الأفيش) المعلق على باب السينما ونتندر عليه ونطلق عليه النكات ونضحك…
بعد هذا المشهد الذي حكاه صاحبه ظللت فترة طويلة أتساءل :
ألهذه الدرجة يكره الناس الحقيقة على قول إيليا أبي ماضي :
وترى الحقيقة هيكلا متجسدا فتعافها لوساوس تتوهم ؟
لماذا لم يفكر الجمهور فيما يحاك ضده من مؤامرات ؟
هل حسن النية بلا حدود وصلاحيتها لدينا مدى الحياة ؟
لأدرك بعدها أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، إلا وهو إخفاقنا في حرب الوعي التي لها معارك متوالية نخسرها جميعا !
إن معارك الوعي هي الفيصل بين التقدم والتخلف، فمن فاز فيها فقد شبّ عن الطوق وانطلق إلى رحابات أوسع في عالم الرقي والتحضر …
كنت أتساءل دوما ما الفرق بيننا وبينهم، رغم أننا لا ينقصنا العقول المفكرة ولا تنقصنا الكفاءات ولا تنقصنا الرغبة في التقدم .. البيئة خصبة جدا لنمو الوعي ..
لأجد أن مفتاح الإجابة يتلخص في . . الأخلاق !
فالمرعى أخضر والعنز مريض، نحن لا ينقصنا ما نربح به معركة الوعي، لكن لدينا لا مبالاة .. لا تعوزنا الكفاءات، لكننا نفضل عليها أصحاب (الواسطة)، نحن نجامل حتى في صحتنا بالتساهل في أمور خطيرة قاتلة !
نحن وياللأسف نفضل الطريق المعوج في الوصول إلى ما نريد ..
نحن نفتقد إلى روح المغامرة ونحتاج أخلاق الفرسان وشجاعة القلب .
من منعوا الشاب من نشر الحقيقة ليسوا بأقل منه خبرة أو ذكاء إنما تنقصهم الشجاعة الكافية لمحاربة الوهم .. نحن نعشق الكذب .
تعليق