يمكن للفنّ أن يأخذنا في رحلة إلى المستقبل القريب أو إلى الماضي البعيد. يمكن أن نستحضر به المشاعر القوية والأفكار العميقة، أو أن ننبهر ببريقه البصريّ. وقد يختلف ردّ فعل كلّ أحدٍ منّا تجاه الفنّ، لكنّه في النهاية لابدّ وأن يؤثّر فينا جميعًا.
يحدث هذا بسبب التأثير القوي للفنّ على الدماغ البشري. عرْض ومشاهدة وتحليل وخلق الفنّ يحفّز الدماغ بطرق جوهرية وطويلة الأمد. بالنسبة إلى أيّ شخص مهتمّ بالنموّ المستمر من خلال التعلم مدى الحياة، يمكن أن تكون الفوائد الثقافية والفكرية للفنّ أداةً قوية يمكنه الاستفادة منها في رحلته الشخصية.
• إذًا كيف يمكن أن يؤثر كلّ من عرض وصنع الفن بنتائج إيجابية على عقلك؟!
هناك قدر كافٍ من الأدلة العلمية التي تثبت أنّ الفن يعزّز من وظائف الدماغ، حيث أنه يؤثّر على أنماط موجات الدماغ والعواطف، والجهاز العصبي، ورفع مستويات السيروتونين. وأيضًا يمكن للفنّ تغيير وجهة نظر الشخص والطريقة التي يرى بها العالم.
قدّمت مجموعة من الأبحاث كمية كافية من البيانات لإثبات أنّ تعليم الفنون يؤثر على كلّ شيء من التحصيل الأكاديمي الشامل إلى التنمية الاجتماعية والعاطفية وأكثر من ذلك بكثير. حيث أثبتت الأبحاث أنّ الفنّ يطوّر أنظمة عصبية في الدماغ تُنتج مجموعة واسعة من الفوائد التي تتراوح بين المهارات الحركية الدقيقة والإبداع وتحسين التوازن العاطفي. بكل بساطة، الفنّ لا يقدّر بثمن.
ويقول إريك جنسن -أحد أبرز المترجمين في عالم علم الأعصاب في مجال التعليم- في كتابه (الفنون مع العقل في الدماغ- Arts with Brain in mind): “الأنظمة التي يغذّيها الفنّ في الدماغ، والتي تشمل قدراتنا الحسية والعاطفية والحركية المتكاملة، هي في الواقع، القوى الدافعة وراء تعلّم العلوم الأخرى.”
إعلان
وللتأكيد على الكيفية التي تعمل بها الفنون والدماغ معًا، هناك دراسة أخرى، أجرتها جوديث بيرتون، أستاذة التربية الفنية والأبحاث، كلية المعلمين، جامعة كولومبيا، والتي تكشف عن أنّ موضوعات مثل الرياضيات والعلوم واللغة تتطلب الإدراك المعقّد والقدرات الإبداعية والتي هي في الأساس “نموذجية في تعلّم الفنون”.
• الفنّ يقلّل التوتر ويعزّز مهارات حلّ المشكلات
الشخص العادي ينتج في المتوسط 60000 فكرة يوميًا، 95% منها يتكرّر كلّ يوم، 80% منها أفكار سلبية!
ولكن عندما تنغمس تمامًا في محاولة إبداعية، قد تجد نفسك في حالة تُعرف باسم “التدفق”، هذه الحالة تشبه التأمّل؛ تزيد من تركيز عقلك وتدفع جانبًا كلّ مخاوفك بشكلٍ مؤقّت.
وعلى عكس الرياضيات، لا توجد إجابة واحدة صحيحة في الفنّ. فهو يشجّع على التفكير الإبداعي ويتيح لك التوصل إلى حلول فريدة خاصة بك.
كما أنّ ممارسة أنشطةٍ مثل الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي تساعد على الاسترخاء، وتخفّض مستويات التوتّر لديك وتجعلك تشعر بالوضوح والهدوء العقلي.
“تحتضن اللوحة جميع وظائف العين العشرة؛ أي الظلام والضوء والجسم واللون والشكل والمكان والمسافة والقرب والحركة والراحة”. ليوناردو دا فينشي
ووجدت دراسة لأكثر من 10,000 طالب أنّ رحلةً لمدة ساعة واحدة لمتحف فنون غيّر طريقة تفكيرهم وشعورهم. الطلاب الذين زاروا متحفًا لم يُظهروا فقط مهارات تفكير نقديّ متزايد وحسب، بل أظهروا تعاطفًا أكبر تجاه كيف عاش الناس في الماضي وأعربوا عن تعاطفٍ أكبر تجاه أشخاص مختلفين عنهم.
يقول البروفيسور سمير ذكي، عالم الأعصاب في كلية لندن الجامعية “أنّ مجرّد عرض الفنّ يمنح الشعور بالمتعة، ويشبه إلى حدّ كبير الوقوع في الحبّ”. وكشفت فحوصٌ في الدماغ أنّ النظر إلى الأعمال الفنية يؤدي إلى زيادة تدفّق الدوبامين إلى نفس المنطقة من الدماغ التي تسجّل الحبّ الرومانسى. وبالنسبة إلى معظمنا، تصعب زيارة متحفٍ فنّيّ يوميًا، ولكن يمكنك الحصول على الجرعة اليومية من الثقافة باستخدام تطبيق Daily Art.
ووفقًا للموقع الإلكتروني للمعهد الوطني الأمريكي للصحة (NIH) فإنّ النشرة البحثية الموسّعة “العلاقة بين الفن والشفاء والصحة العامة تقول بأنّه: “من شأن المشاركة في الأنشطة الإبداعية أن تسهم في الحدّ من التوتر والاكتئاب ويمكن أن تكون بمثابة وسيلة للتخفيف من عبء الأمراض المزمنة”. كما ذكرت أنّه “من خلال الإبداع والخيال، نجد هويتنا ومخزوننا من الشفاء. وكلما فهمنا العلاقة بين التعبير الإبداعي والشفاء، كلما اكتشفنا قوة الشفاء من الفنون”.
وأسّس الدكتور أرنولد بريسكي برنامجًا يُسمّى “Brain Tune Up – لحن الدماغ” والذي يَستخدم العلاج الفنّي لمرضى الزهايمر والخرف.
من خلال الرسم والتصوير فقط، فإنه حقّق نجاحًا بنسبة 70٪ في تحسين ذكريات مرضاه، حيث يزيد الفنّ من تواصل النصفين الأيمن والأيسر من دماغ المريض وتكوين خلايا دماغ جديدة.
• الفن وأدمغتنا
عندما تشاهد لوحةً لشخصٍ ما (كالموناليزا مثلًا) فأنت لا ترى الشخص نفسه. ومع ذلك، فإنّ أدمغتنا قادرة على التعرف فورًا على الشخص المرسوم من خطوط وألوان، واعتباره إنسانًا ما.
في الواقع، تحاول أدمغتنا التعرف على الوجوه في كلّ شيء نراه تقريبًا.
على سيبل المثال، إذا ألقيت نظرة على مقبس الكهرباء في المنزل لمدة دقيقة فقط، فسترى تعبير الوجه المتفاجئ.ولكن، لماذا يحدث ذلك؟
اتّضح أنّ الدماغ بارع بشكلٍ ملحوظ في إيجاد معنى للأنماط والأشكال المجردة والمعلومات غير المكتملة.
في كلّ مرة تنظر فيها إلى قطعة فنية، يعمل دماغك على فهم المعلومات البصرية التي يتلقّاها سواء كنت تنظر إلى اللوحات ذات الصور النابضة بالحياة أو إلى مجموعات مجرّدة من المستطيلات ليس لها معنى، وبذلك فإنّ النظر إلى الفنّ يحفز الدماغ وينمّي موهبتنا الفطرية في تنظيم الأنماط وإدراك الأشكال التي يجب استخدامها.
وبخلاف مهارة الدماغ في فهم ما نراه، فإنّ الدماغ يمرّ بتغييرات عندما ننظر إلى قطعة فنية جميلة. وطبقًا لدراسة نُشرت عام 2011 في جريدة التليجراف، فإنّ النظر إلى لوحة مرسومة أو منحوتة أو أيّ أعمال فنية أخرى، يزيد من تدفّق الدم إلى الدماغ بنسبة تصل إلى 10٪ – أي ما يعادل النظر إلى شخص تحبه.
وهناك أيضًا دراسة أخرى نُشرت في نفس الجريدة تؤكّد أنّ مشاهدة الفنون تقلّل من نسبة الإصابة بالأمراض.
حيث يقول الطبيب د/داشار كيلتنر، من جامعة كاليفورنيا في بيركلي:
“إنّ روعة وعجب وجمال الفنون تعزّز المستويات الصحية من بروتين السيتوكينات والتي تشير إلى أنّ الأشياء التي نقوم بها لتجربة هذه المشاعر -السير في الغابات مثلًا، الاندماج مع الموسيقى، والنظر في الفن- لها تأثير مباشر على الصحة ومتوسط العمر المتوقع.
ووجدت أيضًا دراسة حديثة من جامعة كاليفورنيا- بيركلي أنّ “المشاركين الذين عاشوا لحظات روعةِ وجمال الفنّ كانت لديهم أدنى مستويات من بروتين الإنترلوكين 6، وهو علامة على تقليل الالتهاب”.
ومع ذلك، فإنّ عرض ومشاهدة الفنّ لا يقتصر على فهم الأشكال فقط.، فبدلاً من مجرّد التفكير في أنّ الفن شيء جميل ورائع، نريد أن نضع أنفسنا داخل العمل الفني نفسه. حيث تحدث هذه الظاهرة من خلال عملية تعرف باسم (الإدراك المتجسد)، حيث تتحول الخلايا العصبية في الدماغ إلى أشياء مثل الحركة والنشاط والطاقة التي تراها في الفنّ إلى عواطف فعلية يمكن أن تشعر بها.
يبدأ الإدراك المتجسد عندما تنظر إلى قطعة فنية. كلما قمت بتحليل القطعة، كلما وضعت نفسك داخل المشهد وبالتالي يمكن أن تشعر بجودة الأعمال بطريقة أفضل.
على سبيل المثال، في كثير من الأحيان يمكن أن يشعر مشاهدو الرسم بالتنقيط الذي قام به جاكسون بولوك بأنهم هم الذين يقومون بعملية الطلاء على القماش. كما هو واضح في الصورة
مثال آخر، عندما تنظر إلى قطعة فنية تصوّر منظرًا صحراويًا، يمكن أن يجعلك هذا تشعر بآثار الشمس الحارقة والرمل تحت قدميك وصوت النسيم الناعم.
وبالتالي فأنت يمكنك تقدير أيّ عمل فنيّ بشكل أكبر عندما تشعر بالإدراك المتجسد.
• الحكم على الفن
إنّ ردّ فعل دماغك للمحفّزات البصرية التي يتلقاها من العمل الفني هو فقط الجزء الأول من عملية متعددة الخطوات.
وفهم كيفية الحكم على الفنّ تتيح لك تحقيق أقصى استفادة من التجربة عن طريق الحفاظ على نشاط الدماغ ومشاركته.
هناك بعض الأشياء التي يمكنك القيام بها لتحليل قطعة فنية معينة واستخدام عقلك بشكلٍ فعال:
أولًا: صِف ما تراه وما لا تراه.
ثانيًا: فكّر في القطعة، وما قد تمثله، وما تقوله عن الفنان.
ثالثًا: ناقش العمل مع الآخرين، وقارنه بأعمال أخرى بالإضافة إلى تجاربك الخاصة.
كلّما زاد الوقت الذي تقضيه في تحليل قطعة فنية، كلّما تمكّنت من تحفيز وظائف الدماغ اللاواعية والواعية. وبالتالي يمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة مهاراتك التحليلية وحلّ المشكلات في الحياة اليومية.
• صنع وإنشاء الفن
في كلّ مرة تنخرط فيها في نشاط جديد أو معقّد، يخلق دماغك روابط جديدة بين خلايا المخ. وتعرف قدرة عقلك على تنمية العلاقات والتغيير طوال حياتك باسم اللدونة الدماغية، أو المرونة العصبية.
خلْق الفن يحفّز التواصل بين أجزاء مختلفة من الدماغ. وبهذه الطريقة، ثبت أنّ إنشاء الفن يزيد من المرونة النفسية ومقاومة الإجهاد.
ويُعتقد أنّ الذكاء يعتمد أكثر على عدد وصلات الدماغ من حجم الدماغ.
وهناك دراسات تؤكد أنّ إنتاج الفن البصري يزيد من التواصل الوظيفي في الدماغ إلى جانب تعزيز وتنشيط القشرة البصرية. ويشبّه الباحثون صنع الفن بممارسة تمرينات للدماغ، ويؤكدون أنه يشبه التمارين البدنية التي تساعد الجسم، بالإضافة إلى أنّ صنع الفن يعمل على إبقاء العقل نشطًا وحمايته من أعراض الشيخوخة. لذلك فإنّ الفنانين أكثر صحّة من غيرهم.
وإذا ذهبنا لأبعد من ذلك، يمكن أن يساعد الفن -في الواقع- على التعامل مع المواقف الصعبة والمضنية التي تواجهها في الحياة اليومية.
لستَ بحاجة لأن تكون فنانًا حقيقيًا ومتمرسًا لصنع الفن. بل يمكنك البدء في صنع وإنشاء الفن الخاص بك وذلك على طريق:
دروس الرسم الجماعية. تتيح لك دروس الفنون الجماعية في “الورشات” أو المدارس المحلية التواصل مع الأصدقاء أثناء إنشاء قطعة فنية جميلة! ابحث عن دروس الرسم في مجموعة محلية في منطقتك، أو ابحث عن دروس الرسم المتاحة على الانترنت.
كتب التلوين للكبار. هذه تساعدك على الاسترخاء والابتعاد عن التوتر في يوم مرهق. يمكنك الحصول عليها من أي مكتبة محلية في منطقتك، وتعتبر فرنسا أول دولة تهتم بكتب تلوين الكبار للحد من التوتر والإجهاد.
دروس تشكيل ونفخ الزجاج. هذه الدروس وسيلة ممتعة لتعلم مهارات جديدة! اعثر على فصل دراسي محلي لتعلم كيفية تشكيل الورود والزجاج والمزهريات وغير ذلك الكثير.
التصوير. تناول الكاميرا وقم بالتقاط بعض الصور الزاهية لمنزلك، أصدقائك، عائلتك، الأماكن التي تقضي فيها معظم وقتك. تحدى نفسك بأن تقوم بالتقاط عدد معين من الصور كلّ يوم، أو اجلب الكاميرا في مناسبات غير متوقعة. قد تكتشف انطباعًا مختلفًا!
أرسم شيئًا من منزلك. حاول الجلوس لمدة 10 دقائق وارسم شيئًا تراه في منزلك. في المرة القادمة، جرّب رسمًا لمدة دقيقتين، ثم رسمًا لمدة 30 دقيقة. تغيير القواعد سوف يتحدى عقلك ويحافظ على تدفق الإبداع.
دروس رسم الأشكال. غالبًا ما تجدها مجانًا في مراكز المجتمع المحلي والمتاحف الفنية وعلى الانترنت، حيث تمكّنك دروس الرسم الكلاسيكية من التعرف جسم الإنسان من منظور مختلف.
أخيرًا
قد يكون الجمال نسبيًّا من وجهة نظر المشاهد، لكنّ العلاقة بين الفن والقوة العقلية هي من وجهة نظر العلوم المتخصصة.
يمثّل الاهتمام بالفن طريقة رائعة لجعل دماغك أكثر مرونة مع تحسين جودة حياتك. عندما تكون مستعدًا “للتجربة” توجَّهْ إلى المتحف المحلي أو قم ببعض الأبحاث على الإنترنت حول الفنانين وروائعهم.