شهر مضى ولم يتحدث بعد في أمر زواجه من ملك، هل تبدأ هى الحديث بشأنهما أم تنتظر وقتاً أطول ؟ ولكن إلى متى ؟ هناك شيء ما يريد أن يخبرها به ولكنه عالقٌ بجوفه لا يستطيع الإفصاح عنه، هى تشعر بذلك، ترى ما الذى يخفيه عنها؟ هل تزوج في الغربة بإحداهن؟ لطمت صدرها بلا وعى، المصيبة أن يكون له أبناء أيضًا في الغربة ….
لا مفر من مصارحته الآن، لقد أمهلته طويلًا بلا جدوى، لا يجب أن تظل الأمور معلقة في الهواء إلى المنتهى
غمغمت أخيرًا في تلعثم :
– متى سنفرح بكما يا خالد ؟
– ماذا تعنين يا أمى ؟
– أنت وملك
– ملك !!
– نعم، أما تكفى عشر سنوات من الانتظار ؟
– انتظار !!
تعلقت عيناها بوجهه.. غمغم مرتبكًا :
– أمى، تتحدثين عنها وكأنها شاخت وهى تنتظرنى
– ألا ترى أنها كبرت بالفعل ؟
– بلى ، بدلت الضفيرتين بضفيرة واحدة
– لا تستهزأ بحديثى، زملاء ملك بالمدرسة لديهن طفلين وثلاثة الآن، وبعضهن أطفالهن التحقوا بالمدرسة منذ أعوام، عشرة سنوات ليست بالفترة الهينة يا ولدى
– بالله يا أمى، لقد انتهت بالكاد من دراستها الجامعية، فلا داع لكل هذه الضجة
– وما حاجتها للدراسة الجامعية، إنها حجة ابتدعناها لنعلل بها انتظارك
– ما هذا الهراء !!
– حديثى لم يعد يعجبك الآن، صار هراء بالنسبة لك، لم نعد نليق بتعليم أمريكا، لكننى أستحق أكثر من هذا لأننى طاوعتك على الرحيل
– أمى، حاولى أن تتفهمينى أرجوك
– ما الذى تريدنى أن أتفهمه ؟
تطلع إليها في حيرة، هل يخبرها بأمر سوزان ؟ بداخله يقين بأنها لن توافق أبدًا على زواجه منها مهما حاول إقناعها بذلك، توقفت الكلمات على شفتيه كعادته كلما حاول مصارحتها بالأمر، تأمل عينيها المحدقة في وجهه وأغلق فمه مستسلمًا .. فعادت تهتف به :
– حسنًا يا ولدى، لم تقل شيئًا بعد
عاد يغمغم في ارتباك :
– أخبرتك من قبل، أن ملك أخت بالنسبة لى، لا أستطيع الزواج منها
– وهل أدركت هذا بعد عشر سنوات ؟
– أنا لم أعلن يومًا عن رغبتى في الزواج منها
– ربما لم تعلن هذا قولًا، ولكن لماذا طلبت منها أن تنتظرك؟ ماذا عن خطاباتك في السنوات الأولى لرحيلك؟ لماذا لم تخبرنا صراحة بعدم رغبتك في الزواج منها بعد ذلك؟ لماذا انتظرت كل هذا الوقت وسلبت منها فرص كثيرة لزواج جيد ؟
– أمى، ملك مازالت صغيرة وجميلة و…………
– وعليك أن تتزوجها
– لا تحدثينى وكأننى طفل صغير، أنا في الثانية والثلاثين من عمرى وأستطيع أن أحدد ما أريده جيدًا، وأنا لا أريد الزواج من ملك
– أنا أعرف مصلحتك خير منك، لن تجد زوجة مثل ملك مهما بحثت في كل الدنيا
– عندنا في أمريكا ما أن يبلغ الابن أو الابنة السادسة عشر أو الثامنة عشر على الأكثر حتى يصبح حرًا، مستقلًا، لا يحق لأحد أن يحدد له ما يفعله
صاحت به في عنف :
– تقصد عندهم في أمريكا وليس عندنا نحن هنا
زفر في ضيق بينما نظرت إليه مستنكرة وما لبثت إن أردفت وهى تحاول أن تستعيده من غربة ما زالت تسكن اعماقه :
– عندنا هنا في الصعيد.. الابن يظل طوعًا لوالديه حتى يدفنهما أو يدفناه
ضغط على حروفه قائلًا
– أمى.. أنا لن أتزوج ملك مهما حدث، وإن كانت أخر امرأة في العالم
– لماذا عدت إذًا ؟ ظننتك عدت لتحمل الهم عنى لا لتضع فوقه همًا آخر، نفذ ما أطلبه منك أو عد من حيث أتيت.. إن أردت البقاء معى.. فعليك أن تعوض ملك عن الحرمان الذى سببته لها.. أو أتنازل أنا لها عن كل ما أملكه لأعوضها به عن عمرها الذى سرقته أنت منها
– ماذا تقصدين ؟
– أنت تعلم جيدًا ما أقصده
كان يعلم جيدًا مدى صلابتها وقسوتها عندما تريد القسوة، وهى الآن في قمة قسوتها معه، بماذا عليه أن يضحى حتى ينال رضاها الذى أصبح شبه مستحيل؟
وماذا عن حبيبته.. ماذا عن سوزان وعن وعوده لها ؟ أيضحى بحبه حتى يسترضيها؟
كلا.. محال، فلتذهب أملاكه للجحيم إن كانت ستأتى بإذلاله وتجبره على الحياة مع امرأة لا يرغبها ولا يشعر نحوها بأية عاطفة عدا الأخوة وحدها
أشاحت بوجهها عنه ورفعت رأسها لأعلى، كانت شامخة صامدة كالجبل كعادتها دائمًا، كان والده يعشقها بجنون وهى أيضًا كانت تعشقه رغم أنه كان يكبرها بأكثر من ثلاثين عامًا، تزوجا رغم أنف الجميع وعاشا زواجًا سعيدًا حتى أصابه المرض واشتد عليه ولكنها تحملته وعانت معه كثيرًا حتى أصابته المنية وتركها وحيدة وسط غابة تسكنها الوحوش الآدمية
صارعت الجميع حتى تضمن حقوق وحيدها وتحفظ له ثروته كاملة، حاولوا نهبها بكل الطرق لدرجة التشكيك في بنوة الطفل، اتهموها بالخيانة والعهر، قالوا أن والده كان مريضًا لا يستطيع الانجاب فمن أين أتت به؟
كانت صدمتهم بل وصدمتها أيضًا عظيمة جدا عندما اكتشفوا أنه كتب كل ما يملك باسمها هى.. زوجته الوحيدة وأم طفله الوحيد وسجله في الشهر العقارى أيضًا قبل موته بسنوات، أصيبوا جميعًا بالذهول وأصيبت هى بالشجاعة وازدادت عزمًا وصلابة، نبتت لها أنياب وأظافر وأجنحة أيضًا
صارت تهدد وتتوعد وتنفذ وعيدها حتى تجنبوها خوفًا منها لا حياءً
غمغم في محاولة يائسة :
– من الظلم أن تحرمينى من ثروة والدى لصالح أخرى غريبة عنه.. لن يرضيه هذا أبدًا
– ولن يرضيه أيضًا ما تنوى أنت فعله.. من الخيانة أن أبيع أرض والدك التى استأمننى عليها لتلهو بها أنت مع الأجنبيات
– أنا لن أتزوج أجنبية
– تزوج ملك إذًا
– كلا يا أمى
– أنت ابن عاق، لا تستحق شيئًا منى، لقد كتب لى والدك كل ما يملك راضيًا لأننى كنت زوجة صالحة لم أعصه يومًا رغم عجزه ومرضه
نظرت إلى وجهه المتذمر وأردفت :
– وأنا لن أملكك شيئًا ما لم تكن صالحًا أنت أيضًا وتقدر ما تحملته لحماية ما تركه والدك
– وهل زواجى من ابنة اختك هو ما سيجعلنى صالحًا ؟
– نعم، ملك ستنجب لك أبناءً صالحين، ملك ستكون طوعًا لك كما كنت أنا طوعًا لوالدك
تأملها متهكمًا قبل أن يغمغم في مرارة ممزوجة يأسًا :
– حسنًا يا أمى سأعود من حيث اتيت كما طلبت أنت، سأجمع حقائبى الآن وأسافر إلى أمريكا في أول طائرة متجهة إلى هناك، و افعلى ما يريح ضميرك، احرمينى من حقى الشرعى في ميراث أبى وامنحيه لآخر ليس من نسله، آخر غريب عنه، آخر كل حسناته أنه تزوج من ملك، إن وجدت أن هذا هو الصواب فافعليه يا أمى، أما أنا فلن أعود إلى هنا مرة أخرى
قاومت كثيرًا لكى تظل صامدة، لكى لا تستدير وتضمه لصدرها وترجوه أن يبقى معها، أى رحيل يتحدث عنه من جديد؟ هنا بيته وقريته ووطنه، هنا ولد وهنا يجب أن يموت، لقد سئمت غربتها بعيدًا عنه، الشهر الذى أمضاه معها منذ عودته بالكاد أعاد الحياة إليها، محال أن تتركه يرحل هذه المرة
استدار ليغادر الغرفة في نفس اللحظة التى دلفت إليها ملك تحمل صينية رصت فوقها ثلاثة أكواب من العصير، تلاشت ابتسامتها وهى تنظر إليهما في قلق قائلة :
– ماذا يحدث هنا، ماذا بكما ؟