1-الغريب
تدلت عناقيد الزينة فوق بنايتها التى رقصت مع الأضواء الملونة في مشهد اتسعت له ابتسامتها وقد ظنتها بلغت مداها، ها هو اليوم الذى انتظرته طويلًا ، يوم اللقاء بعد عشر سنوات أمضاها بعيدًا عنها، لم يكتف يومها ببكالوريوس التجارة الذى حصل عليه من جامعة أسيوط .. قرر الرحيل إلى أمريكا رغبة في المزيد من العلم والمعرفة، سيعود بعدها ليصنع مستقبلًا أفضل.. هكذا زعم يومها ليقنعها برحيله، لم يشفع لها كونه وحيدها، ولا اضطرارها للوقوف في مواجهة عائلتها الكبيرة بلا رجل ولا سند بعد أن توفى والده وتركها مطمعًا للجميع، لم تشفع توسلاتها له بالبقاء بجوارها في العدول عن رأيه، وإن كانت توسلاته هو قد شفعت له وأرغمتها على مساندته في تحقيق ما يريده.. رغم ما تعرضت له من مضايقات طيلة سنوات غربته التى وعدها بأنها لن تطول، ومضت سنة تجر أخرى حتى كاد اليأس يقتلها من عودته مجددًا.. عشر سنوات سطرت خلالها آلاف الخطابات التى أرسلتها إليه تارة مكتوبة بدموعها وأخرى بدمائها وبلا جدوى، كل خطاباتها رغم العذاب الذى تحمله حروفها لم تثنه عن البقاء بعيدًا عنها، لم تفتت الصخر الذى أنبتته الغربة بين ضلوعه، لم توقظ فيه ضميرًا ظنته مات للأبد، وها هو قد قرر العودة أخيرًا.. أخيرًا قرر أن ينهى غربته .. بل غربتها
تجولت بين أبناء قريتها الذين تجمعوا أمام منزلها لمشاركتها فرحتها بعودته، تأكدت بنفسها من أن كل منهم قد وصله نصيبه من الذبائح التى نحرتها فرحًا به، اليوم يوم عيد للقرية كلها، دخلت إلى منزلها تتفقد النسوة اللواتى أتين لمساعدتها في تجهيز الوليمة الضخمة التى أعدتها لاستقباله، بادلتهم التهنئة وهى تهتف في سعادة :
– ليساعدني الله على رد جميلكن في الأفراح
جلست تشارك الفتيات التصفيق في سعادة عندما توقفت الفتاة عن الرقص فجأة، والقت المرأة بالطبلة التى تمسك بها جانبًا، أسرعن جميعًا للخارج، تعالت الزغاريد من أفواه النساء وبنادق الرجال بينما تقدمت إحداهن منها وهى تهتف قائلة :
– وصل يا عواطف.. عاد خالد من أمريكا
تمتمت بكلمات الحمد وأسرعت تتبعها بعيون دامعة وقلب يتلهف شوقًا لرؤيته، الخطابات التى داوم على إرسالها لها لم تشبع حنينها إليه، لم تطفئ لهيب الشوق الذى ظل يستعر يومًا بعد آخر، لم تعادل لحظة كهذه أبدًا، ترى كيف أصبح الآن …؟
قلب آخر غنت نبضاته تهليلًا ، قلب فاق صدى دقاته تهليل الطبول وزغاريد النساء وصراع البنادق التى دوى كالرعد يقطع الصمت فجأة .. قلب ملك..
ابتلعت ريقها بصعوبة وهى تتلصص لرؤيته من خلف نافذة غرفتها التى استكانت بها بعد أن رفضن مساعدتها لهن في إعداد الطعام وزجرنها قائلات في حسم :
– أنت اليوم عروس ولا لوم عليك.. فقط تزينى لاستقبال عريسك
توقفت السيارة أمام باب المنزل وترجل منها، أطلقت تنهيدة طويلة جمعت بها كل هواء الغرفة بين رئتيها، إنه هو حبيبها، عشق الطفولة والصبا.. حلم العمر كله..
منذ الصغر عرف بطول قامته.. ولكن هل ازدادت قامته طولًا ؟ بنيته أصبحت أقوى واشتد عوده كثيرًا، الصور التى كان يرسلها في خطاباته من حين لآخر لم تكن تبرز كل هذه الرجولة التى تراها تطل منه الآن
تلقفته والدته منتحبة بينما ضمها إليه وراح يربت على ظهرها بقوة وحنان عله يروى عطش السنوات العشر التى أمضاها بعيدًا عنها، ألقت عليه بجسدها المتهالك حتى كادت تسقط أرضًا، امتزجت دموع الرضا بدموع الحنين عندما رفعتها ذراعاه القوية قبل أن تلمس الأرض، إنه ولدها، سند الظهر وعكاز الدهر، فرعها الأخضر بعد أن دفنها الزمن قهراً كجذر عجوز تحت التراب
غمغمت فى لهفة :
– خالد.. ولدى.. أخيرًا يا ولدى.. لكم اشتقت إليك..! علام كانت هذه الغربة، كل شهادات العالم لا تساوى يومًا تمضيه بعيدًا عن حضنى يا ولدى
– أنا أيضًا يا أمى، اشتقت إليك كثيرًا
جلس بين رجال قريته بعد طول عناق وترحيب من الجميع، تراجعت ملك للخلف وكأنها تخشى أن يراها بعد أن أصبح جالسًا في مواجهتها، هزت رأسها وهى تعنف نفسها على سذاجتها وخوفها الذى لا مبرر له، كيف سيراها إن كانت النافذة مغلقة والغرفة مظلمة من حولها؟ يا لها من بلهاء جبانة..!
ولكن لماذا يبدو متجهمًا هكذا، وكأن كل ما أعدوه لاستقباله لا يسعده..! وكأن ترحيبهم واهتمامهم لا يؤثر فيه..! اشتهر قديمًا بتكشيرته وقلة حديثه حتى أطلق عليه أقرانه ” الفتى العبوس ” واتهموه بثقل الظل.. رغم أن ظله على قلبها كان أرق من النسيم، ولمَ لا ؟، ألم يكن يبتسم لها وحدها؟ ألم يكن يمنعهم جميعًا من الاقتراب منها وهو يصحبها من المدرسة أو إليها ؟
بدا وجهه أكثر بشاشة الآن وهو يودع الحضور.. تنفس الصعداء عندما انتهى الحفل وكأنه كان ينتظر انتهاءه بصبر نافد.. دخل إلى المنزل.. شعرت بألم فجأة في ساقيها، يبدو أنها ظلت تراقبه طويلًا من خلف النافذة، أسرعت تضيء مصباح حجرتها، لابد وأنه سوف يسأل عنها الآن
تأملت نفسها أمام المرآة.. عيناها متوهجتان بلهيب السعادة والحب، وجنتيها متوردتان وكأنها سكبت فوقهما علبة كاملة من المساحيق الملونة ، شفتاها أيضًا بدت كالكرز في قمة نضجه، عجبًا.. لم تكن يومًا بهذا الجمال، هل الحب يفعل كل هذا ؟!
أمسكت بضفيرتها الذهبية الطويلة التى طالما تباهت بها بين صديقاتها وزميلاتها في المدرسة والجامعة أيضًا، كانت لامعة مضيئة ككل شيء حولها، سوف يرسل لها الآن لا محالة، لابد أن شوقه إليها لا يقل أبدًا عن شوقها إليه
ما زالت تتذكر كيف ودعها يوم رحيله بعيون دامعة وأنفاس لاهثة .. كان مشتاقاً إليها قبل أن يتركها .. حرارة قبضته التى أحكمها حول كفها وتشبث به طيلة طريقهم إلى المطار وحتى اللحظات الأخيرة قبل صعوده إلى الطائرة استمرت تلهب قلبها حتى هذه اللحظة
وعدها حينها أنه سيعود سريعًا من أجلها …..
تنبهت من شرودها على صوت خالتها التى دخلت إلى غرفتها مهللة وهى تتأملها قائلة :
– تعالى يا ملك، خالد يريد رؤيتك
وجدت نفسها بلا وعى تحتضنها بقوة وسعادة وكأن كلا منهما تهنئ الأخرى بعودته، تباعدتا أخيرًا بعيون تبكى فرحًا، حاولت أن تبدو واثقة كعادتها دائمًا وهى تتبعها إلى حيث يجلس في الردهة، خانتها خطواتها المرتبكة وكادت تسقط أرضًا رغم كل ما تبذله للحفاظ على توازنها حتى اقتربت منه
نهض عن كرسيه ما أن وقعت عيناه عليها وهمس باسمها في ابتسامة أفقدتها ما تبقى لها من وعى، توقفت عن الحركة وقد عجزت ساقاها عن حملها لمسافة أطول بينما تقدم هو منها، ضمها إليه وقبلها في حنين عادت بعده عدوًا إلى غرفتها لتحتمى بجدرانها وبابها المغلق، ارتمت فوق فراشها بأنفاس لاهثة تحاول أن تستجمع شتات نفسها الممزقة، ما هذا الجنون الذى فعله بها، كيف تجرأ على فعل فاضح كهذا ؟
لو لم يكن سيصبح زوجها عما قريب لكان لها معه شأن آخر، لم يكن يومًا بتلك الوقاحة.. هل هذا هو ما تعلمه في بلاد الخواجات ؟!
انتهرته والدته عندما تمادى في الضحك طويلا وهو يرى رد فعل ملك العنيف والذعر الذى أصابها عندما ضمها إليه
– كيف فعلت هذا يا خالد؟ لقد أصبتها بالخجل
– كنت أصافحها يا أمى بعد غياب عشر سنوات كاملة
– تصافحها !! بهذه الطريقة !
– نعم، هذه مصافحة عادية جدًا ولكنكم هنا تبالغون كثيرًا في رد الفعل
– هل اشتقت إليها يا ولدى ؟
– بالطبع يا أمى فهى بنت خالتى
– فقط !
– بل هى بمثابة أختى أيضًا، أنت من توليت تربيتها منذ وفاة والدتها وهى تلدها
– بل هى أكثر من هذا، هل نسيت الحب الذى جمع بينكما قبل سفرك للخارج ..؟
أشاح بوجهه صامتًا، أزعجها كونه لم يعلق على كلماتها الأخيرة، هل يشعر بالخجل أم أن مشاعره نحوها قد تبدلت ؟ هل تبدأ هى بالحديث معه في أمر زواجه منها أم تنتظر حتى يبدأ هو بهذا الحديث ؟
لقد كان متيمًا بها قبل رحيله إلى أمريكا، كان يغار عليها حد الجنون، لم يسمح لأحد قط بالاقتراب منها والتودد إليها .. القرية كلها تعرف بأمر زواجهما منذ أمد طويل، كم من شباب القرية وخير رجالها جاء يسألها عن موعد زفافها إليه، كانت تعلم أنهم يجربون حظهم للفوز بها والزواج منها، ولكنها كانت في كل مرة تخبرهم بل وتؤكد لهم أن لا عريس لـ ( ملك ) إلا ( خالد ) وأنه سوف يعود قريبًا لتزفها إليه، ماذا لو كان قد بدل رأيه ولم يعد يرغب في الزواج منها ؟
ستكون كارثة بكل المقاييس، حينها ستخسر أحدهما لا مفر ..
عادت تحدق في وجهه من جديد، ربما كانت تبالغ في قلقها هذا، عليها أن تنتظر قليلًا حتى تتيقن من حقيقة الأمر، إنه لم يعد إليهما سوى اليوم فقط، سيتجدد كل شيء بينهما مع الوقت، محال أن يكون قد نسيها تمامًا، كان في الثانية والعشرين يوم رحل إلى أمريكا.. كان قد أنهى دراسته الجامعية، لم يكن طفلًا ولا مراهقًا.. كان ناضجًا بالقدر الذى يمكنه من الاختيار، وقد اختارها يومها.. كان يحبها.. كان ……
أزعجتها صبغة الماضى التى طغت على أفكارها ولكنها رغم هذا تمسكت بخيط الأمل الرفيع في إصرار وعناد كعادتها دائمًا
جلسوا يتناولون طعامهم في اليوم التالى، كان واضحًا أنه يتعمد إثارتها وكأنه يتسلى برد فعلها من حين لآخر.. هتف مشاكسًا :
– قالت والدتى بأنك من أعددت كل هذا الطعام ولكننى لم أصدقها
نظرت إليه تستنكر النبرة الساخرة في صوته بينما هتفت والدته في سعادة :
– ملك ستكون ربة منزل رائعة، فهى تجيد الطهى والحياكة أيضًا، أنظر إلى ملابسها.. هذا الثوب الجميل الذى ترتديه هى من قامت بحياكته بنفسها، لقد تدربت سنة كاملة في مشغل السيدة فوزية أشهر خياطة في القرية كلها
لم يقل شيئًا وإن كانت ابتسامته قد اتسعت كثيرًا وهو يرى وجهها الذى تخضب احمرارًا وهى تنحنى فوق طبقها حتى كادت أن تلتصق به، انتهى أخيرًا من تناول الطعام.. دلك بطنه المسطح بيده وابتسم لوالدته التى كانت تلح عليه لتناول المزيد قائلًا :
– لو استمر الوضع هكذا، سوف أصاب بالكرش في أقل من أسبوع واحد
هتفت والدته في سعادة :
– بالصحة والعافية يا ولدى، أنت لم تنه طبقك بعد
– حمدًا لله، لقد امتلأت معدتى عن أخرها
نظر إلى ملك التى انشغلت بجمع الصحون وأردف قائلًا :
– هل تجيدين عمل الشاى ؟
هتفت والدته :
– سوف تتذوق الآن أحلى كوب شاى تذوقته في حياتك
أحضر ألبومًا ضخمًا يضم المئات من الصور وراح يسترجع معهما ذكرياته في أمريكا، تنهد في حنين أزعج والدته كثيرًا، هل يفكر في الرحيل إليها من جديد؟
– أنظرا لهذه المساحات الخضراء التى لا نهاية لها
غمغمت والدته ساخطة :
– حقول قريتنا أكثر اتساعًا منها
حدق فيها مستنكرًا قبل أن يشير إلى صورة أخرى قائلًا :
– هذه الصورة على شاطئ ميامى في ولاية فلوريدا منذ عامين، وهذه أمام تمثال الحرية، وهذه في متحف المتروبوليتان في نيويورك و………….
حاولت المرأة أن تتجنب بعض اللقطات الجريئة لفتيات التصقن به في ميوعة بملابسهن المثيرة الشبه عارية ولكن ملك لم تستطع الصمت فهتفت ساخطة :
– من هؤلاء الفتيات اللواتي معك في الصورة ؟
أجابها في لا مبالاة :
– هذه كاتى على اليمين تليها سارة وهذه ساندى.. وهذه الشقراء الجميلة روز وهذه …
راح يعدد أسماءهن التى يحفظها كلها عن ظهر قلب، إنهن لسن عابرات إذًا تقابل معهن مصادفة , لابد وأنه يعرفهن جيدًا.. ترى إلى أى مدى بلغت علاقته بهن ؟
غمغمت ساخطة :
– كلهن نساء.. أليس هناك رجال في أمريكا ؟
ابتسم وقال يغيظها :
– النساء هناك متيمات بالرجل الشرقى.. خاصة عندما يكون مثلى
– وما الذى يميزك عن بقية الرجال ؟
أجابها مستفزاً :
– اخبرينى أنت
تجاهلته وعادت تغمغم في ضيق :
– وكيف تسمح لهذه أن تقبلك هكذا ؟
– كانت تصافحنى
– بهذه الطريقة الخليعة !
– هذه الطريقة مألوفة جدًا في أمريكا، أنها لا تعنى شيئًا على الإطلاق، كلهن فتيات مهذبات جدًا
– مهذبات !!! ونعم التهذيب..!
– هاتى هذا الألبوم، يبدو أننى أخطأت عندما سمحت لك بالاطلاع عليه
– كلا، اتركه معى بعض الوقت، أريد أن أشاهد المناظر الطبيعية بتمعن أكثر
– المناظر الطبيعية !.. حسنًا سأتركه لك، ولكن حذار من التهور
– لا تقلق، لن أمزق صور فتياتك المهذبات
ضاقت عيناه وهو يتأملها قبل أن يبتسم في لا مبالاة من جديد، أخذت الألبوم وأسرعت إلى حجرتها، هناك تستطيع رؤية ما فيه بطريقة أفضل