بقلم د/ سعاد السيد
في المرحلة الإبتدائية، كانت لي زميلة بنفس المقعد يعمل والدها جزارا..
كان وجهها أبيض مشبعا بالحمرة، و كنت أخاف اللعب معها، فوَكْزَة واحدة من قبضتها الممتلئة تُؤْلِم جسدي الواهن النحيل!!
كنت أقول لنفسي لماذا لا يترك أبي وظيفة التدريس ويعمل جزارا!!
كبرت، و بدأ الراغبون في خطبتي يطرقون باب بيتنا طمعا في تلك الفتاة الرقيقة، لكن أبي أصر على أن أتزوج طبيبا!!
بعد سنوات مضت، ساورني إحساس أصبح مؤكدا أن فارس أحلامي لا بد أن يكون جزارا!!
لقد كنت أرقب هذا الرجل أثناء ذهابي و إيابي من العمل،
لقد كان مُمَيَّزا..
وقفته الصارمة، وساطوره الذي يسحبه كالفارس المغوار، و طريقة تقطيعه للحم كأنه فنان حاذق، أسرت لُبِّي!!
الأطباء، أساتذة الجامعات، المهندسون، التجار…… الجميع، يقف أمامه خانعا طامعا بينما يقوم هو بكل ثقة بتقسيم الأوزان كأنها قطع مجوهرات ثمينة!!
دائما ما يسمعني زوجي كلمات كالرعد حين أقتني كيلو واحد من اللحم:
…اللحمة غالية جدا، احنا مش أدها!!
..مالها الفراخ!!
…الدكاترة غلابة ميغركيش، احنا بتوع مناظر بس!!
…يا حبيبتي أنا مش بشوف حد واقف عليه أصلا!!
…تعرفي إننا زمان كنا بناكل بط و وز و اللحمة دي في المناسبات بس!!
لم أكن من عاشقي أكل اللحوم يوما، ولا يهمني إن أكلت حبة من البطاطا أم قطعة برجر مشوية، لكن كل كلام زوجي يدخل من هنا و يخرج من هناك، لأني قررت أن أشتري كمية من اللحم كجاري تاجر الأعلاف الذي لا يحمل مؤهلا و لا وظيفة!!
وقفت أمامه بكل ثقة،
أريد خمسة كيلو من أفضل قطعة عندك!!
و وقفت أتأمله وهو يخبرني أن هذا الجزء للشوربة، وهذا لعمل طاجن خضار فاخر، وهذا للبرجر و ذاك للبوفتيك، و…
بعينين لامعتين حملت أشيائي، وعدت لبيتي كبلبل خرج من قفصه توا و مُنِحَ البراح، ليصدح ملء قلبه.
في الصباح قررت أن ألقي على هذا الجزار السلام،
استدرت ناحيته،
ما إن وقعت عليه عيناي،
حتى كدت أسقط مغشيا علي
تخيلت أنه يُخرج لي لسانه مزهوا
و هو يُشَمِّر عن ساعديه أكمام البالطو الأبيض الجديد..!!