بقلم / كواعب أحمد البراهمي
أنا الذي ذهبت إلي كل الدول العربية لأقدم علمي وأعلم التلاميذ بالمدارس وأنا الطبيب الذي كنت أداوي المرضي , وأنا المهندس الذي كنت أصمم المباني وأحدد مسارات الطرق .
وأنا عامل المعمار الذي كان يعمل في عز الصيف ولفحة الشمس الحارقة , وأنا المحامي الذي علمت كيف تكتب الدعاوي وكيف تتم المرافعات , وأنا القاضي الذي فصل بين الخصوم , وأنا الذي كنت أعمل بالمطعم وبالمحل التجاري , وأنا الذي كنت أعلم كيف يتم تفصيل الملابس .
وأنا المصري الذي ترك أبنه لا يجد من يعلمه ولا يغرس فيه كل ما هو صحيح ,أنا الذي تركته بلا أب وأنا علي قيد الحياة , وأنا الذي ما حضرت يوم ولادته , ولا يوم دخوله المدرسة , ولا يوم فرحته بنجاحه , ولا إحتفاله بعيد ميلاده .أنا الذي تركته يحتاج وجودي بجانبه ليعلمه ويربيه ويصادقه أكثر من إحتياجه للمال وربما المال الذي كان يحصل عليه جعله شخصا أنانيا غير قادر علي تحمل المسئولية .
أنا الذي تركت أبنتي تتزوج أول عريس لأنها تريد رجل في حياتها يعوضها عما ينقصها من إحتياج عاطفي ومادي .
أنا الذي تركت زوجتي لا هي متزوجة ولا هي مطلقة ولا أرملة , تركتها تقوم بدور الأب والأم معا , تركتها تعاني الوحدة والإحتياج , وتقوم بمسئولية كبيرة علي عاتقها , وغالبا دورها لم يكن كاملا .
أنا المصري الذي ذاق ألم الغربة والفراق والوحدة , والذي كثيرا ما مرت عليه الأيام والشهور دون أن يحصل علي وجبة منزلي بطعم الأسرة , أنا المصري الذي عاني كثيرا جدا من القلق في زمن لم يتوافر فيه التواصل إلا عن طريق البريد , والذي كان يحمل رسالة تنقل واقع ربما تغير في وقت وصولها .
أنا المصري الذي توفي أقاربه وأحباؤه , ولم يرهم ولم يستمتع بالقرب منهم .
نعم أنا المصري الذي حسبت أن المال سوف يعوضني ويعوض أسرتي عن كل ما حرمنا منه .
أنا المصري الذي حسب كل الأمور خطأ وعندما أدرك خطاءه كان العمر قد ولي , ولن يعود ولن تعود معه الأيام ولا الشباب ولا الصحة .
أنا الذي كنت أضحي بأشياء كثيرة جداوالتي لو تم وضعها في كفة الميزان ووضع المال في الكفة الأخري بالطبع لرجحت الكفة التي ليس بها المال , لأن المال يشتري أشياء كثيرة جدا , ولكن لا يشتري أيضا أشياء أهم .
فلا مجال أبدا لأن يمن أحد بماله علي من فقد ما هو أغلي من المال , ولا أن يشعر من قدم عمل وخبرة ووقت وصحة وعمر بأنه ذهب محتاجا , بالعكس لولاك ما قامت تلك الدول .
المصري عندما ينظر للواقع للأسف لا يري الكثير , ربما لأن العين دايما تبحث عما ينقصها , ولا تري ما لديها .
لا يري المصري أنه لو العالم أجمع قرر أن يقاطعه ما نقص من عنده شيئا , أنعم الله علينا بأجمل وأفضل النعم , لدينا أرضنا ونيلنا فلا نجوع , ولدينا مصانعنا فلا نعري , لا يضيرنا من العالم شيئ, ولكن العالم هو الذي يحتاج إلينا .
نحن فقط ينقصنا أن نسيطر علي الأمور ونتخلص من الفساد , ونطهر بلدنا من اللصوص والمرتشين , وأن نعمل بجد وإجتهاد وضمير , نفس الضمير الذي نعمل به في الدول الأخري لا زيادة ولا نقص , وعندئذ سنسود العالم .
لدينا مصر التي كانت سلة غذاء العالم , والتي هي أم الدنيا . هي التي ترحب بكل إنسان علي أرضها , وتسمح له بالعمل فيها وإن كان ذلك يحتاج لتقنين بتشغيل نسبة من العمالة من المصريين كإلزام لأي شركة أو مصنع أو محل تجاري يمتلكه غير المصريين .
نحتاج فقط أن نثق أن بلدنا أفضل بكثير من بلدان تعتمد في طعامها وقوتها علي الإستيراد . نحتاج أن نكون بقلب الشخص الفقير الذي لا يملك شيئا ولكنه يمتلك القلب الحامد , والذي يتغلب بالرضا علي كل ما هو صعب .
تحية لأبن مصر والذي للأسف كثيرون منهملا يعرف قدر نفسه ولا قدر بلده .