جمعت غادة مصاغها الذهبي في حقيبتها الصغيرة ، لملمت بعض ثيابها ، وضعتها في كيس من الورق ، نظرت إلى طفلها الذي مازال في عامه الأول ، قبلته على ثغره الأبيض ك ثلج كانون ، مالبثت أن فتحت الباب للمرة الأخيرة .
لم تكن السماء صافية في تلك الليلة ، لكن الهدوء يغرق شيئا فشيئا في خضم ريح تتصاعد رويدا رويدا …
كم أنها لم تتوقع أن تجد أحدا عند الباب ، أو حتى في الطريق المؤدي إلى حيث لا تدري …
_ أين أنت ذاهبة يا امرأة …
صعقت بالصوت الآتي من خلف شجرة صغيرة تقبع بالقرب من نافذة البيت .
_ لست أدري … لست أدري … لا شأن لك بهذا …
_ كيف لا شأن لي … ألست زوجتي …
_ آه … كنت … كنت … هل نسيت بأنك رميت يمين الطلاق صباح اليوم …
_ عودي إلى البيت كي نتفاهم يا غادة …
_ لا لن أعود … أتفهم … لن أعود … لقد انقطع ما بيننا … يكفيني عذابا ، لقد تركت لك كل شيء … فقط دعني أذهب …
حاول أن يتحدث ، لكن ظلها بات يبتعد عنه ، ربما لم تعد تسمع ما يقول …
لحق بها جريا ، أمسك بثوبها بقسوة ، شدها إلى الوراء ، كانت يده أكثر قسوة من لسانه …
_ أريد أن أرى ما تحملين …
_ إنها ثيابي … ثيابي يا ( ….. ) .
_ اعطني الحقيبة الصغيرة … نزعها من يدها عنوة … لكنها أعادتها بحركة مفاجئة …
_ ماذا تريد … لا شيء سوى مصاغي …
_ إنه لي … هاتيه … واذهبي إلى الجحيم …
كم كانت تلك الكلمات صلبة قاسية ، فالمصاغ هو كل ما تملك ، لقد اشترته بما جمعته من مصروف البيت ، كيف ستمضي بلا أي نقود ، أين ستسكن ، كيف ستأكل …
فتحت الحقيبة ورمت إليه بالمصاغ الذهبي …
_ خذه … لا أريد شيئا يذكرني بك بعد اليوم …
التقطه بنهم ، نظر إليها وهو يدير ظهره .
كان أكرم رجلا في العقد الرابع من عمره ، متوسط القامة ، عريض المنكبين ، شارباه يتدليان كعشب على شفتيه الغليظتين ، لونه الأسمر ( الفاتح ) كان سببا ذات يوم في إعجابها به ، لكنها لم تكن تعرف كم يحمل من الغيرة القاتلة ، والبخل الأعمى في طيات قلبه .
صعد أكرم درجتين من الدرج المؤلف من ثماني درجات فقط ، غادة مازالت قريبة جدا منه ، خطواتها متلعثمة جدا ، المطر بدأ يتساقط بغزارة ، الظلمة تزداد حلكة ، ربما تفقد غادة كل شيء في هذه اللحظات …
فجأة دوى صوت هز أركان البيت ، سقط أكرم عند الدرجة الثالثة ، ارتطم رأسه بحافة البلاط ، قذفت بحقيبتيها وجرت نحوه ، كان يلفظ شيئا ما … الزبد الخارج من فيه يمتزج بالدم المنبثق من رأسه ، رفعت رأسه ووضعته على ركبتيها ، من سينجدها في هذا الوقت ، المزرعة بعيدة عن الجوار ، حاولت أن تحمله ، كان ثقيلا جدا ، فتح عينيه للحظة ، نظر إليها وأنفاسه تتحشرج من صدره العريض …
_ هواء … هواء …
أمسك بيدها الناعمة ، كاد أن يهشم أصابعها ، التقت نظراتهما من جديد ، حينذاك كانت دموعها تسابق المطر ، مرت أمامها صورة أكرم الشاب الأسمر ، نسيت مصاغها الذهبي الذي قبع عل على الدرج بازدراء …
وصل بكاء الطفل الصغير إلى أذنيها ، صرخت بأعلى صوتها وهي ترنو إلى السماء …
ضحك الطفل هذه المرة ، أومأت بإصبعها نحو الباب الذي مازال مفتوحا …
________
٣٠ رمضان / ١٤٤٠
ربما إلى اللقاء _ وربما الوداع