بقلم المهندس/ طارق بدراوى ** متحف الفنان محمود مختار ** يقع متحف الفنان محمود مختار بشارع التحرير بوسط القاهرة علي يمين القادم من كوبرى الجلاء متجها إلى ميدان التحرير بالجزيرة بجوار حديقة الحرية وهو أول متحف تقيمه الدولة لفنان مصرى معاصر أيقظ فن النحت من ثباته العميق ومد جسر التواصل بين الفن المصرى القديم والفن الحديث واضعا حجر الأساس الأول الراسخ فى بناء حركة النحت المصرى الحديث وعلي الرغم من فترة حياته القصيرة التى عاشها حيث توفي عام 1934م عن عمر يناهز حوالي 43 عاما إلا أنه ترك لنا ثروة رائعة نعتز بها ًبداية من تمثال نهضة مصر وإنتهاءا بتمثالي سعد زغلول باشا بالقاهرة والإسكندرية ومرورا بتمثال الخماسين الذى يجسد فلاحة مصرية تواجه الريح وتجتمع هذه الثروة الفنية العظيمة فى متحفه الذى أقيم خصيصا لحفظ تراثه تعبيرا وإعترافا من الدولة ممثلة في وزارة الثقافة بفضله فى إبراز قيمة الفنون الحديثة بجانب الفنون القديمة وقد قام بتصميم المتحف المهندس رمسيس ويصا واصف وتم إفتتاحه فى يوم 24 يوليو عام 1962م في عهد وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة ويضم هذا المتحف قطع فنية نحتية لأجيال مختلفة وتعود قصة هذا المتحف إلي أنه بعد وفاة الفنان محمود مختار عام 1934م ونظرا للقيمة الفنية له نادى الصحفيون ورواد الحياة الثقافية في مصر وعلى رأسهم هدى شعراوي بالحفاظ على أعماله الفنية وجمعها لحمايتها من الإندثار والضياع وكللت هذه الجهود بقيام وزارة المعارف العمومية عام 1938م بإنشاء متحف لمختار بمعرض المثالين الفرنسيين المهاجرين بالجمعية الزراعية كما أقيمت مقبرة له علي نفقة الوزارة وفي نفس العام تم إسترجاع بعض أعماله من الخارج إلى مصر وعرضت حينذاك بالمعرض المذكور وأقيمت بهذه المناسبة ندوات ومحاضرات عن قصة حياته تناولت عبقريته الفنية بالنقد والتحليل وللأسف الشديد حال قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939م دون إعادة بقية أعماله من التماثيل من الخارج إلا أن جهود هدي شعراوي كللت بالنجاح في النهاية وتم عودة التماثيل كما كان لجهود الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي وكان يشغل منصب وزير المعارف العمومية من عام 1950م حتي عام 1952م في وزارة الوفد الأخيرة أثر كبير لإعادة أعمال محمود مختار إلى مصر وفي عام 1952م تم إفتتاح متحف الفنان محمود مختار في ملحق خاص بمتحف الفن الحديث ليعرض عدد 59 تمثال من أعماله وقد أشرف على تأسيسه وإعداده كل من الفنان راغب عياد زميل محمود مختار وصديقه الحميم وكمال الملاخ الصحفى والأثرى البارز وليقوم بعدها بعشر سنوات المهندس رمسيس ويصا واصف بتصميم متحف مختار الحديث فى حديقة الحرية بوسط القاهرة المشار إليه مع بناء مقبرة جديدة له بحديقة المتحف والتي تم بالفعل نقل رفاته إليها كنوع من التكريم له .
ويعد متحف الفنان محمود مختار تحفة معمارية تتسم بالكثير من مفردات فن العمارة بداية من الكوبرى الذى يصل بالزائرين من البوابة الرئيسية إلى داخل المتحف ونسبه المعمارية الفذة ومرورا بالواجهة المعبرة عن شموخ وعظمة صاحب هذا الصرح وإنتهاءا بالتفاصيل المعمارية الداخلية وتوزيع الفراغات وقد قامت وزارة الثقافة بتطوير وتحديث متحف محمود مختار وذلك فى إطار سياسة ينتهجها قطاع الفنون التشكيلية لتطوير وتحديث المتاحف الفنية فإلى جانب مبنى المتحف المستخدم فى عرض الأعمال النحتية فقد تم تصميم وتنفيذ قاعة متعددة الأغراض لتكون نافذة ثقافية لمرتادى المتحف تستخدم للعروض الفنية التشكيلية المتنوعة وعقد الندوات الثقافية كما تم تأمين المتحف بنظام متكامل من الأجهزة الأمنية الخاصة بالمراقبة وبالإنذار ضد السرقة والحريق مع وجود نظام تكييف مركزى للمتحف والقاعة متعددة الأغراض علاوة علي أنه تم ترميم الحائط الساند لنهر الطريق بنفس نوع الحجر المستخدم فى إنشاء المتحف وإعداد الحديقة بحيث تسمح بعمل ملتقى الأحجار فى شكل ورش فنية للنحت وقد بلغت تكلفة مشروع تطوير وتحديث متحف مختار حوالي 3.5 مليون جنيه وهو يتكون من طابقين بالإضافة إلى صالة متعددة الأغراض الدور الأول والثانى يعرض بهما أعمال نحتية للفنان محمود مختار والقاعة المستجدة تضم أعمالاً نحتية وأعمال تصوير ومكتبة وورشة عمل ويضم المتحف أعمال الفنان محمود مختار النحتية والتى تتنوع خاماتها ما بين تماثيل منفذة بخامة البرونز وأخرى بالرخام وأخرى بالحجر وأخرى بالجبس وأخرى بالبازلت إلي جانب تمثال منفذ بخامة الجرانيت وكذلك بعض المتعلقات الشخصية الخاصة بالفنان منها معطفين من الكتان والصوف وكرسى من الخشب وصور فوتوغرافية كما يضم المتحف قبرا للفقيد تم بناؤه بالرخام الأخضر كما أسلفنا القول في السطور السابقة .
والفنان محمود مختار ولد يوم 10 مايو عام 1891م ونشأ في نواحي مدينة المحلة الكبرى وتحديدا بقرية طنبارة وكان والده إبراهيم العيساوي عمدة القرية لكن مختار عاش مع جدته لأمه في بيت خاله في قرية نشا في المنصورة وعرف عنه أنه عندما كان طفلا صغيرا كان يقضى معظم وقته بجوار ترعة القرية يشكل في الطين مناظر كان يراها حوله في القرية وبعد ذلك قدم محمود مختار إلي القاهرة عام 1902م وكان يسكن علي مقربة من حي درب الجماميز الذى تم إفتتاح مدرسة الفنون الجميلة به عام 1908م والتي أنشأها الأمير يوسف كمال حفيد الأمير أحمد رفعت الشقيق الأكبر للخديوى إسماعيل والإبن الأكبر للقائد إبراهيم باشا إبن محمد علي باشا والذى كان محبا وشغوفا بالفنون فإلتحق بها في عام إفتتاحها وكان سنه 17 عاما تقريبا فكان ذلك مدخله إلى مستقبل غير متوقع حيث بدأت تلمع موهبته في فن النحت ونالت أعماله في المدرسة إعجاب أساتذته وعلي رأسهم الفنان الفرنسي الشهير لابلانتي فخصصوا له مكانا خاص به لكي يعد أعماله النحتية من تماثيل ومجسمات وأشكال به وتأثر في تلك الفترة بالمجسمات الشعبية المصرية التي كانت شائعة في مشاغل الأزبكية وشارع محمد علي وإنعكس ذلك التأثيرعلى التماثيل الكاريكاتورية التي أبدعها أثناء سنوات الدراسة مثل تمثال إبن البلد المحفوظ بمتحفه حاليا وقد بذلت محاولات مضنية دون جدوى لتحديد تواريخ إبداع روائعه المحفوظة في هذا المتحف إلا أن المعروف أنه قد شكل بضعة تماثيل صغيرة ذات طابع شعبي ساخر أثناء سنوات الدراسة في مدرسة الفنون الجميلة العليا وبالطبع لفتت موهبته نظر الأمير يوسف كمال راعي ومؤسس المدرسة وإسترعت إنتباهه فتعهده بالرعاية وقام بإرساله في بعثة دراسية إلى العاصمة الفرنسية باريس لكي يكمل دراسته هناك علي يد المثال الفرنسي الشهير ميرسييه ومثلما نشأ الفنان والمثال الإيطالي الشهير مايكل أنجلو صاحب تمثالي النبي موسي والنبي داود في رعاية الأمير الفلورنسي لورنزو دى ميدتشي فقد نشأ الفنان والمثال المصرى الكبير محمود مختار في رعاية الأمير يوسف كمال وكان من أبرز إنجازات فناننا الكبير محمود مختار بعد عودته من بعثته الدراسية مساهمته في تطوير مدرسة الفنون الجميلة العليا وكذلك مشاركته في إختيار الموهوبين في فن النحت من أجل إيفادهم في بعثات دراسية بالخارج .
وقد شارك أيضا الفنان محمود مختار في عدة معارض دولية بالخارج وقد لاقت أعماله التي قام بعرضها بها إعجاب الجميع حيث بدأ محمود مختار خطواته نحو العالمية عام 1913م حينما قام بعرض تمثال سماه عايدة في صالون باريس الذي كان يعتبر الإشتراك في عروضه شهادة إمتياز وكان من أهم وأشهر أعماله تمثال نهضة مصر وقد جاءت فكرة نحت تمثال يمثل نهضة مصر إلى الفنان محمود مختار في نهاية عام 1917م وبدأ بالفعل خلال عام 1918م وعام 1919م في نحت تمثال كبير يبلغ حجمه نصف حجم التمثال الحالي ولما إنتهى من نحته عرضه في معرض الفنون الجميلة عام 1920م وهو معرض كان يقام سنويا في العاصمة الفرنسية باريس في قاعة السراى الكبرى أو الجرائد باليه ونال التمثال إعجاب الرواد والمحكمين من المهتمين بفن النحت وصناعة التماثيل ونال الميدالية الذهبية متفوقا على جميع النحاتين الفرنسيين وغيرهم من الجنسيات الأخرى وتزامن ذلك مع تواجد الوفد المصرى برئاسة سعد زغلول باشا في باريس أثناء حضوره مؤتمر الصلح بين الدول التي خاضت الحرب العالمية الأولي من أجل عرض مطالب مصر علي هذا المؤتمر وقام الوفد بزيارة معرض الفنون الجميلة المشار إليه وشاهد أعضاؤه التمثال المصرى ونال إعجابهم وأبرقوا إلي مصر بضرورة إقامة هذا التمثال في القاهرة وتم عرض الأمر علي مجلس الوزراء والذى كان يترأسه في ذلك الوقت أحمد زيوار باشا فأصدر قرارا يوم 25 يونيو عام 1925م بإقامة تمثال نهضة مصر في ميدان محطة مصر أو باب الحديد والذى أصبح حاليا ميدان رمسيس وتم الإعلان عن عمل إكتتاب لإقامة التمثال وساهمت فئات عريضة من الشعب المصرى في هذا الإكتتاب ثم أكملت الحكومة المصرية باقي نفقات إقامة التمثال وفي يوم 20 مايو عام 1928م وفي عهد الملك فؤاد الأول وعهد وزارة مصطفي النحاس باشا الأولي أقيمت حفلة كبرى في ميدان باب الحديد تم فيها إزاحة الستار عن التمثال وليكون في إستقبال من يفد إلي القاهرة بالقطار وقد ظل في مكانه حتي تم إتخاذ قرار في عام 1955م في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بنقل التمثال إلى مكانه الحالي بالميدان الذى تم تسميته بإسم التمثال ميدان نهضة مصر أمام جامعة القاهرة ويذكر محمود مختار أن الفكرة الأولى لهذا التمثال كانت إمرأة جميلة تشبه جان دارك تمسك سيفا كما لو كانت ترد به الإنجليز المحتلين لبلده مصر لكنه بعد أن قام بنحته نظر إليه بعد أن اعجب به أساتذته الفرنسيون وأحس أنه تمثال فرنسي فحطمه ووضع بدلا منه تصميم تمثال نهضة مصر الذى يمثل فتاة مصرية تقف بجانب أبي الهول وتضع يدها علي رأسه وهي تنظر إلي الأمام كأنها تنظر إلى شئ بعيد فالفتاة رمز لمصر وهي تنظر إلي المستقبل وفي نفس الوقت فهي لا تنسى ماضيها ومتمسكة بجذورها وحضارتها العريقة التي يمثلها أبو الهول وبالإضافة إلي ماسبق فاز محمود مختار بجائزة من معرض صالون باريس عام 1925م عن تمثاله لأم كلثوم كما قام فناننا الكبير بتنظيم معرض خاص بأعماله في باريس في قاعة برنهايم المعروفة في عام 1930م عرض به 40 تمثالا وكان هذا المعرض سببا رئيسيا في التعريف بالمدرسة المصرية الحديثة في الفن وسجلت ميلادها أمام النقاد والمهتمين بفن النحت علي مستوى العالم كله .
وكان من أعمال الفنان محمود مختار أيضا تمثالا الزعيم سعد زغلول باشا في كل من القاهرة والإسكندرية وتماثيل الفلاحة وزوجة شيخ البلد وحارس الحقول وحاملات الجرار وإبن البلد وكاتمة الأسرار وبنت الشلال والوجه البحرى والوجه القبلي والعميان الثلاثة كما كان من أعماله النحتية العظيمة لوحتان من الرخام الأبيض منحوتتان على جانبي تمثال إيزيس يعتبران من معجزات النمنمة النحتية البارزة إذا قورنت بمثيلاتها في الماضي عند الفراعنة أو الإغريق أو حتى في عصر النهضة تمثال إيزيس نفسه الذي يعلو القاعدة فهو بدوره قطعة فنية رائعة منحوتة في الرخام الأبيض يصور الآلهة المصرية تجلس القرفصاء وترفع ذراعيها خلف رأسها مجللة بالحزن واللوعة على زوجها وحبيبها أوزوريس ومأساته في الأسطورة الفرعونية وكأعمال كل العظماء كانت تماثيل محمود مختار ترديدا لنبض شعبه في حركته الإجتماعية نحو التغيير مع الثراء قولا وإبداعا حتى حين شكل تماثيله الصغيرة الشهيرة للفلاحات أبدعها مفعمة بالقوة والحيوية والخصوبة وأنوثة المعتدة بنفسها لكن إنجازه الأكبر أنه نجح فيما فشلت فيه حقبتا البطالمة والرومان في مصر بين غزو الإسكندر الأكبر لمصر عام 332 ق.م والفتح الإسلامي لها عام 642م حيث تدهور فن النحت بسبب تنافر القيم الجمالية الفرعونية والبطلمية لكن مختار جمع الأسلوب المحافظ المستمد من التراثين الإغريقى والرومانى والطابع المصري الفرعوني كما كان من منجزاته أيضا قيامه بتكوين جماعة الخيال عام 1928م بهدف إحياء فن التراث وكان من أعضاء هذه الجماعة الأديبة الكبيرة مي زيادة والأدباء الكبار عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني ومحمد حسين هيكل باشا ومن الطريف أنه علي الرغم من الحماسة الشعبية التي ألهبها شعراء وأدباء ومؤرخون أثناء الدعوة للإكتتاب لإقامة تمثال نهضة مصر فإن كلا من العقاد والمازنى إنتقدا التمثال على صفحات مجلة السياسة بشدة وكان هذا أول نقد لعمل فنى تشكيلي في صحافتنا العربية وبعد أن شارك محمود مختار في تكوين جماعة الخيال كان من بين أعضائها البارزين العقاد والمازنى .