قصة قصيرة
بين يدي عربتها تقف، معروقة الجبين، زاعقة بصوت رجالي:
الترمس الحيَّاني…و…
مع صغار المدرسة المشتركة، نلتف حولها، رافعين أيدينا بعملاتنا الصغيرة، طلبا لقرطاسها العامر..و…
لم يعد يخفي على أحد، اقتصار التعليم بقريتنا على الابتدائية، ولايخفى أيضاً، حتمية توجهنا ـ آنذاك ـ بنينا وبنات، إلى الإعدادية بإحدى القريتين، المحشورة قريتنا بينهما، واحدة يساراً، وأخرى يمينا، يميل آباؤنا إليها، مؤكدين أن كل يمين مبروك، وكل شمال مسكون بالشياطين، وإياكم من ارتداء قمصان البنات الملونة، وأنتم ذاهبون إلى المدرسة، وإياكن من ارتداء طواقي الرجال أوثيابهم، كما تفعل هنية ، ومن على شاكلتها.
واقع موروث، يسهل تطبيقه في أي آن، كما يسهل تمرير أي شيء، تحت مظلة التحليل والتحريم، لم تتعمد هنية الانفلات من ظله، لولا ظرفها القدري، الذي جعلها تبدو في نظر آبائنا، سابحة عكس التيار، واقعة تحت حد اللعن.
أمام مدرسة القرية المجاورة، إلى جوار الحنفية العمومية، بالحوش غير المسور، الذي يُعد جزءاً من الشارع، تحط عربتة هنية، في حجم صندوق خشبي كبير، بإطارين خشبيين كمروحتين، يحيط كل منهما شريط مطاطي، هو في الحقيقة حرف، من إطار سيارة قديمة، يمتص خبطات السير بالشوراع، الملبدة بالحُفر والحجارة.
للعربة يدان، كيدي نعش أماميتين، يضعهما المشيعون فوق أكتافهم، وهم في طريقهم إلى المدافن، بين يدي العربة تدخل هنية، ممسكة كل خشبة بيد، رافعة صدر العربة، لتباعد بين الأرض، وبين قائمتيها الأماميتين، الشبيهتين بساقيّ حمار عجوز، يرتكز عليهما صدر العربة، حال الوقوف للراحة أوالبيع، فيما ترتكز على العجلتين المروحيتين من الخلف.
كلما رفعت هنية ذراعي العربة، ارتفع صدرها بأماميتيها عن الأرض، وسهل دفعها إلى الأمام، لتوجيهها نحو أية وجهة.
إلى جوار الحنفية، أمام المدرسة، تستقر هنية، قبل أن تزعق، زعقتها المنغمة بصوت رجالي:
الترمس الحياني.
أصفر ولذيذ، وهدية للعزيز ياترمس.
هاهاها
ومن ورائها نردد:
ها ها ها.
تكشف شفتاها الغليظتان، عن أسنان مسودة، تدب يدها بفتحة الجلباب الرجالي، دافعة بها إلى الصيديري المخطط، الظاهر من فتحة الجلباب، وبمسكة واحدة تُخرج عُلْبَتيّ السجائر والكبريت، وبحركة مُدربة، تدخل بين شفتيها، أولى سجائرها ذات الإطار المذهب، قبل إشعال الثقاب.
تسحب نفساً خفيفاً، ثم تحتويها بين إصبعيها، لتضعها بمكان محدد، على حافة العربة، يُبقى الجزء المشتعل، خارج حدود الحافة، التي تشبه سورا، بارتفاع شبر واحد، يحيط بسطح العربة.
لصق هذا السور، وخارج حدوده، تثبت عدة دوائر خشبية منتظمة، تستقر بكل دائرة، قُلة من فخار أحمر مبلول، تخصص هنية إحداها، لرش الترمس من حين إلى حين، فيما تبقى الأخريات، لرى ظمأ العطشى من الزبائن وعابري السبيل.
على سطح العربة فوق العجلتين تماماً، يرقد هرم كبير، من ترمس مبلل فاقع الصفرة، فيما تزين سطح الهرم، كرات ليمون سليمة، أما المشقوقة إلى نصفين، فتحيط قاعدته بانتظام.
في الأمام وأعلى ساقيّ العربة الأماميتين، تتراص أوان صغيرة من فخار، مليئة بحِلبة منبتة جاهزة للأكل.
تزعق هنية زعقة جديدة:
الترمس الحيَّاني…، والحِلْبة
تتسارع أيدينا إليها بقطع العُملة:
أنا يا هنية
أنا يا هنية… أنا يا…
تُسارع آلياً، بنزع أوراق كتاب قديم، صانعة من كل ورقة، قرطاساً مناسباً، تحفن حفنة الترمس، لتملأ فراغ القرطاس، تسحب آنية الحلبة، مفرغة إياها فوق الترمس ، فيبدو القرطاس، كطفل يرتدي طربوش المولد.
بين أصبعيّ السبابة والإبهام، تضغط هنية فص الليمون، فتتساقط نقاطه فوق طربوش القرطاس،…عملية تبدو مُركبة، تتم في زمن ضئيل، بلا أي عناء.
تدفع بظهرها إلى الوراء، ويداها ممسكتان بجانبيها، وهي تهمس:
يا ألله…احفظهن وارزقني برزقهن.
لايعرف أكثر الملتفين، لمن تدعو هنية، أو لماذا.
ترسل تنهيدة ارتياح، ماسحة العرق أعلى حاجبيها، تبدو كمن أدت واجبا حتميا، ثم تعود إلى همسها مواصلة الدعاء.
…
بين الفينة والفينة، تعيد دورة إشعال السجائر، مصحوبة بدورة من ندائها، الذي بات محفوظاً، ودورة من رش الترمس، بماء القُللة المعروفة.
تلقي نظرة على هرج الصغار، ملقية بضحكة متفاعلة، فتنفتح فوهة فمها، فيظهر للعيان، ضرسان فضيان لامعان، فتسارع بإغلاق الفوهة، مُحْكِمة الشال الرجالي الأبيض حول رأسها، المحشور داخل طاقية من صوف الغنم، فاحمة السواد، تركل عجلة العربة القريبة منها، نافضة التراب العالق بحذائها الرجالي، فتكشف ساقها، عن جورب أزرق محبوك، حول ساقيّ بنطلون صوفي، بلون الطاقية الفاحمة، والقميص الصوف، البادي من فتحة الجلباب الصدرية، فيما يظهر كُما القميص الطويلان، تحت كميّ الجلباب المشمرين، كاشفينً عن ساعة يد، متسعة الدائرة فضية اللمعة.
ولنا ـ أي التلاميذ الغرياء ـ معها، معاملات ومعاملات؛ إذ تعمد إلى توسيع قراطيسنا، لتستوعب مزيدا من الحب اللذيذ، مع منحنا فصوصاً إضافية من ليمون، ترفع حاجباها السمراوان الكثيفان، قائلة:
الغرباء لهم الإكرام.
والنبي كريم، ويحب كل الكريم.
نردد ـ كما علمتنا هي ـ:
عليه الصلاة والسلام.
تعترينا الثرثرة، محاولين إفهامها، أننا نذوب فيها حباً، ترتفع عيوننا لأعلى، فتقع على شمسية العربة المربعة، المنصوبة على أعمدة خشبية، مثبتة بأركانها الأربعة، تقى الترمس والحلبة، والليمون، وقُلل الماء، من وَهَج الشمس.
تمتد أيدينا إلى القُلل، يرتوي ظمؤنا، يخف في حلوقنا، طعم ملوحة الترمس، تغادرأفواهنا (تكريعات) طفولية، يعلو وجهها عبوسٌ وقتيّ، دون أن تنهرنا، فيما يعيد كلُّ منا، قُلته إلى مكانها.
نعود لندير الكلام بيننا، تصل أسئلتنا البريئة إلى بيتها، ورجُلها، وأولادها، أو…
يعتريها الصمت للحظات، ثم ترمي بصرها نحو صورة مرسومة، تحتل جنبات العربة، لمركب صغير في مهب الريح، يحمل فتيات ثلاث يتيمات، يحاولن الاحتماء بأختهن الكبرى، التي ترتدي زي الرجال، وهي تحارب لإنقاذ مركبهن من الغرق.