بقلم :على الصاوى
كنّا فى جنازة أنا وصديق لى والهدوء يخيّم على أرجاء المكان والجميع يلوذ بالصمت هيبة للموقف وتأثراً به، وعلماً بأنهم يوما ما سيمرّون به، وفجأة تمّتم صديقى بكلمات هادئة لم أفهمها فقلت له بصوت خافت، ماذا تقول؟ فقال لى “بعدين “، وبعد أن خرجنا سألته ماذا كنت تقول، فقال لى تذكرت مثلاً قديماً كان يردده أجدادنا فى تلك المواقف، فقلت له فسرّ لى أكثر وما هو المثلّ؟ فقال لى عندما كان يموت أحد الناس من المشهود لهم بالصلاح وحسن الخلق كانوا يرددون هذا المثل القائل ” ما يفضلّ على المِداود ألا شرّ البقر” إشارة إلى أن الموت يخطف مبكراً المحسنين وخيرة البشر، فى حين أن هناك من يعيشون بيننا وهم لا يستحقون الحياة لسوء أخلاقهم وكثرة مشاكلهم، فقلت له ما معنى المثلّ؟ فقال لى، هل تعرف المكان الذى تُوضع فيه البهائم، فقلت نعم، فقال يوجد فى هذا المكان بناء مجوّف من الداخل يوضع فيه طعام البهائم يُقال له مِدّود، فهم يشبهون شرار الخلق بالبقرة المشاغبة التى تظل فى المِدود حينا من الدهر ترهق صاحبها، فى حين أن أفضل البهائم يكنّ عليها الطلب أكثر لحلمها وذكاء حليبها، ففهمت بعد ذلك أن الشخص الذى كنّا بحضرة جنازته سيء ولا يحظى بسيرة طيبة بين الناس.
فقديما كان الناس يستخدمون الأمثال للتأكيد بها على وجهة نظرهم تجاه مواقف كثيرة وحوادث يومية لتقريب معناها للآخرين، فهذا كان مبلغهم من العلم فى تفسير الظواهر التى تحدث أمامهم وتوثيقها بتلك العبارات لتكون عبرة للأجيال.
إن الموت قدرٌ محتوم على الإنسان وأقسى ما فيه هو مرارة الفراق فلا يُبقى على أحد ولا يفرق بين والدٍ ولا ولد، لكنه سرعان ما يقبض أرواح خيرة الناس، من لهم فى قلوبنا مكاناً خاصا نظراً لمناقبهم الأخلاقية ومواقفهم الإنسانية تجاه من يعرفون ومن لا يعرفون.
أحد الشعراء كان له بيتاً من الشعر يقول فيه “أن الأذن تعشق قبل العيّن أحيانا” فقد تحب إنسانا قبل أن تراه وتتعامل معه لما يتمتع به من سمعة طيبة بين الخلق ، فقد جاءنى خبر وفاة رجلاً نحسبة من الصالحين، كان بشوش الوجه، طيب القلب جيّد اليد، لا يتوانى عن مساعدة أحد، يده منبسطة دائما بالعطاء تجده حاضراً دائما فى الضراء قبل السراء، يسأل عليك ويبادر بالخير دون أن تطلب، فكما قال لى أحد من يجالسونه دائما أنه كان يتمتع بصحة وافرة ومظهرا لا يوحى بأى مرض، لكن متى كان للموت قوانين أو حسابات تخضعة وفقاً لها، فالكل يخضع للموت لكنّ الموت لا يخضع لأحد.
فبأى حديث نبدأ رثاء الأحبة، وبأى كلام نوفىّ قدرهم، وهل أحد يستطيع أن يرفع عن الشمس كسوفها أو أن يجلىّ عن القمر سواده سوى خالقهما، إن مثل هؤلاء فى الحياة كمثل الشمس والقمر يهتدى بهم التائه ويأخذ من فضلهم العوام ويدخل نورهم على الجميع دون أن يفرّق، فما أكثر النجوم فى السماء لكن حين تريد الدفئ تحتاج إلى الشمس، وحين تريد الهداية ورشاد الطريق تحتاج إلى القمر، كذلك البشر كثيرون كالنجوم لكن قليل منهم من يأخذ بيدك ويدفّر برد قلبك، قليل منهم من يساعدك كى تبلغ مأمنك وتقضى حاجتك.
ففى حديث نبوىّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” يذهبُ الصالحون الأول فالأول ولا تبقى إلا حثالة مثل حثالة التمر والشعير لا يبالي الله لهم باله” فالموت ينتقى ويختار كما ينتقى الواحد منّا الطيب من الثمار أولاً، ولا يبالي بغيره من الثمار الفاسد العطب، فالرجل النافع كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء يأكل من خيرها الرائح والغادى وهذا ما كان عليه ذلك الرجل، فكان مضيافا لزوّاره متواضع الجانب، ومع ثراءه ويسر أحواله لم تراه يوما تكبّر أو تجبّر على أحد بل كان يذهب بنفسه يطرق باب هذا وذاك ليعطيهم حق الله من زكاة وصدقة، فكان رحيله مفاجأة للجميع، ولما لا، فلمثل هذا يحزن القلب ويبكى، فمرارة فراقهم تترك كلوما فى القلب لا تداويها الأيام، رحم الله كل نافع صالح أضاف إلى وعاء الآخرين من برّه واحسانه ما جعله خالدَ الذكر بينهم لا يموت حتى وإن وارى التراب جسده، تظل ذكراه العطرة تفوح فى كل مكان يُذكر فيه، إنه المهندس محمد سليمان رحمه الله.