رثاء الزوجة في الشعر العربي
آلام السابقين ووجيعة اللاحقين
بقلم هشام صلاح
” العرب أمة شاعرة ” حقيقة ثابتة أكدتها وبرهنت عليها حقائق التاريخ ولا مبالغة فى ذلك: فالشعر هو الذى حفظ تاريخنا ، وأيامنا، ومسيرة حياتنا .
ولأنه ” ديوان العرب ” فقد صار سجلا حافلا ينبض بجميع أحوالهم ومشاعرهم أفراحهم وأتراحهم ولعل من أهم ما سجلته أشعارنا ” رثاء الزوجة “
فلا جدال فى أن من أجل وأعظم النعم بيتا ترفرف فيه روح المحبة والود والرحمة والتعاون وملاك كل ذلك وأساسه زوجة صالحة فى وجودها سر عمارهذا البيت، لذا فهى بحق درته الوضيئة التى لا تبلى ، ولا يخمد لها سنا وبريق،
لكل ذلك حفل ديوان الشعر العربي بالتغزل فى الزوجات في حياتهن. حتى إذا ما حل الفراق الأبدي فاضت عيون الشعراء بدموع الأسى والحزن العميق عليهن
فلنشعر من خلالهم ببعض مما شعروا به وعايشوه من مرارة الآلام والمواجع رثاء الشعراء للزوجات.
* بداية نواسى شاعرنا مسلم بن الوليد الذى ذاب حزنا لموت زوجته ،والذى أقسم ألا يذوق شيئا من متع الحياة وملذاتها حتى أن بعض إخوانه أقسم عليه أن يشرب الخمر حتى ينسى مأساته، فرفض وأصر على الرفض، وقال:
بـكـاء وكـأس كـيـف يتفقان
دعـانـي وإفـراطَ البكاء فإنني
غدت والثرى أولى بها من وليها
فلا حزن حتى تذرف العين ماءها
سـبـيـلاهما فى القلب مختلفان
أرى الـيـوم فيه غير ما تريان
إلـى مـنـزل نـاء لعينك دان
وتـحـتـرق الأحـشاء للخفقان
***********
* وهذا الوزير محمد بن عبد الملك الزيات ماتت زوجته تاركة له طفلا فى الثامنة من عمره، فسجل مأساة الفقد من خلال هذا الطفل الصغير ، يقول :
ألا مـن رأى الـطفل المفارق أمَّهُ
رأى كـل أم وابـنـها .. غير أمه
وبـات وحـيـدا في الفراش تَجُنُّه
ضعيف القوى لا يعرف الأجرَ حِسبة
بُـعَـيـد الـكـرى عـيناه تبتدران
يـبـيـتـان تـحت الليل ينتحبان
بـلابـل قـلـب دائـم الـخـفقان
أداري بـهـذا الـدمـع مـا تريان
جـلـيـد، فـمن بالصبر لابن ثمان
ولا يـأتـسـي بـالناس في الحَدَثان
***********
*وهذه قصيدة الشاعر النجرانى القاسم بن على بن هتيمل الضمدي الذى فيها سجل يوم وفاة زوجته ووداعها إلى مثواها الأخير، حيث تمنى لو كفنت بجلده، ودفنت فى ضلوعه فقال :
بنفسي عصر يوم السبت نعش
تُـسل إلى الحفيرة منه شمس
تـكـفن بالثياب فليت جلدي
تـهـاداه الـمـناكب والرقاب
تـبـلـج مـن جوانبها شهاب
لـها كفن، وليت دمي خضاب
* وهذا الشاعر أحمد محمد الشامي الذى لم يستطع طوال عامين رثاء زوجته لانه عاجز عن رثائها فالحزن أخرس قلمه ، غير أنه بعدها كتب قائلا :
أنا الذى ظَلْتُ أبكي الصحب منتحبا
بَـعْد الحبيبة مات القول وانتحرت
خـرسـتُ عامين لا أسْطيع أندبها
واليوم ها أنا من قبر الوجوم ، وفي
أهـب أبـكي بشعري من لها زمنا
بالشعر لم تنحبس فى موقف كلمي
أوزان شـعرى كأني صرتُ ذا بَكم
إلا بـدمـع عـلى الخدين منسجم
ذكـرى الحبيبة رغم السُقْم والهرم
أخلصتُ حبي وكانت فيه مُعتَصمي
*وهذا عزيز أباظة يصور مشهد احتضار الزوجة وكلماتها الأخيرة قبل أن تلقى ربها بساعة أو بعض ساعة … يقول :
دفـعـتْ صـدرها إلي وألقت
ثـم قـالـت فى أنَّة .. تتهاوى
لا تـرَعْ واحـمل الفجيعة جَلْداً
وأشـارت لـطـفلة تشهد الهوْ
قالت : ” أرع الأولاد، وابق كما
ومـضـت تنزع الحياةَ وتُلقي
فـي سـنـا لامح وعَرف زكيٍّ
* وهذا ديوان من وحى المرأة للشاعر عبد الرحمن صدقى الذى كانت وفاة زوجته الشابة المثقفة صدمة له، وفاستسلم لليأس ، وفقد الشعور بمتع الحياة، فلم يعد لها فى نظره قيمة، فقال:
طُـبِعُت على زهد، ومن أجل زوجتى
فـمـن أجـل زوجي كان هذا التلبب
وقـد مُـتِّ يـا زوجي فماتت دوافعي
فمن أجل من أسمو على المجد والعلا ؟
فما المجد ؟ لا صوتُ الجماهير مطربٌ
لـقـد ان مـجدي فى عيونك وحدها
طـلـبـتُ الغنى والمجدَ فيمن تطلبوا
ومـن أجلها فى زحمة العيش أضرب
وغـاضـت يـنابيعي ، وحق التسلبُ
ومـن أجـل من يحلو الغنى والتكسب
ولا الـخُـلد فى بطن التواريخ يجذب
كـفـانِـيَ إعـجـاب بها .. وتعجب
———————-
* ولا أجد لكلماتى موضعا إذا ما أرادت التقديم لحروف أبيات قصيدة أخى وأستاذى الشاعر الكبير المهندس ” ثروت سليم ” فى مناجاة روح فقيدته وحبيبته زوجتي الغالية السيدة نعمت الأمير أُمُ أبنائه وأم بناته رحمها الله تعالى وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنة فكتب يقول :
مهْمَا رُزِقْتُ فصاحَةَ الشعراءِ
مهْمَا أُسَطِّرُ بالدُموعِ رِثَائي
مهمَا عَلِمْتُ من البديعِ بيانَهُ
ومن البيانِ.. بلاغةَ البُلغَاءِ
مهْما أقولُ فكُلُ قوْلٍ صامِتٌ
بعدَ الوداع ..وبعدَ كلِ لقاءِ
فالموتُ حمَّلني فراقُ حبيبَةٍ
والموتُ سِرُ فجيعتي وبُكائي
يا ليتني كنتُ المُسافِرَ قبلَها
لأعيشَ بينَ منازِلِ الشُهدَاءِ
وأُجَهِّزَ البيتَ الجميلَ لعُشِنَا
بحدائقِ الفردوسِ ..والفَيْحَاءِ
يا ليتني كنتُ الذي عانيتُ ما
عانيْتِ مِن بأسٍ ومن بلوَاءِ
حمَلَتْ كما حملَ البَعيرُ وحمْلُهَا
صَبْرٌ على صَبْرٍ بِلا استثناءِ
فحملتُها بينَ الرُموشِ ولم أزلْ
أسمو ..بكُلِ مَشَاعري ووفائي
وبكيتُهَا وكأنَّ صَخْرَاً في دَمي
سَالتْ عليهِ مدامِعُ الخنسَاءِ
الأمرُ أكبَرُ من قصيدَةِ شاعرٍ
والأمرُ أكبرُ من حروفِ نِدائي
والأمرُ أكبرُ من مصيبةِ خالدٍ
عُمَرٍ.. وعبدِ اللهِ ..وال.. أسمَاءِ
والأمرُ أكبرُ من ظروفٍ مُحَمَّدٍ
والأمرُ فوقَ دقائقُ الأشياءِ
والأمرُ أنَّكِ لو رَحَلْتِ فبيتُنَا
رغمَ الضِيَا.. سيُصابُ بالظلماءِ
نُورٌ على نُورٍ وجودُكِ في دمي
وبِلا حُضورِكِ غابَ كُلُ ضياءِ
وروائح الفل التي في بيتِنا
غابتْ ..وغابَ المِسكُ كُلَّ مَساءِ
فكأنَّ في كَفَّيكِ عطْرَ خَديجَةٍ
والوردَ بينَ أصابعِ الزَهراءِ
ألَمٌ على ألَمِ يُسافرُ في دَمي
ويعيدُ لي بعضاً من الأنباءِ
بعضاً من الذكرى وبعضَ معالمٍ
زُرْنَا.. وبعضَ منَازِلِ الخُلفاءِ
فأقُولُ للأحلامِ رغمَ غُروبِهَا
طُوبَى لشَمْسِ اللهِ في الغُربَاءِ
فأنا الغريبُ بدُونِ قُرْبكِ بينمَا
إنتِ القريبُ بمُهجَتي ودُعَائي
يا رب كُنْ عوناً فأنتَ لروحِهَا
سِرُ الحياةِ ..ورَاحَةُ السُعداءِ
فالعزاء كل العزاء لشاعرنا الأحب ثروت بك سليم وحسبه أن توأمه ورفيقة دربه تركت له من عبيرها الفياض بنات وأبناء ندعو الله أن يكونوا زخرا لابيهم وزادا ليظل بريق حرفه وشموخ قلمه وفيض احساسه باق بيننا فى روائعه التى تسمو بها أرواحنا ومشاعرنا