كان الطريق مكتظّاً بالمارّة ، مشاةٌ من الرجال , والنساء , والأطفال ، سيارات تعبرُ دون هوادة ، الريحُ تصفِرُ في هذا الصباح الكانوني ، أمطارٌ غزيرةٌ لم ترحم أحداً ممنْ لم يستطيعوا الاحتماء منها ، البردُ وصل إلى ذروته .
يقف تامرٌ وحيداً على منعطفِ الطريق المؤدية إلى العاصمة ، يُقاومُ كل قساوة الصقيعِ , والمطر الذي بدأ يتحول إلى ندَفٍ من الثلجِ بجسده النحيل المتقوقع بثوب وكأنهُ حضرَ حروباً عدة ، لم يتجاوز الفتى الثانية عشرة من عمره يومذاك ، فَقْدَ والديه منذ أكثر من سنةٍ ونيف ، أخاهُ الأكبر تركهُ وأخته الصغيرة ( رهف ) ذات الخمسة أعوام مُهاجراً إلى حيثُ لا يدري ، كان يقضي نهاره في هذا الطريق , أو في جارهِ الآخر ، رهفُ تنتظرهُ في مدخلِ بنايةٍ قديمة ، اِتخذاَ منهُ مأوىً لهما ، ترك المدرسة العام الماضي , كي يلتقطَ شيئاً من هنا , وآخر من هناك كي يبقى وأخته على قيدِ الحياة …
هل كانَ ذلك الصباح مختلفاً عن غيره ؟ لا أحد يعلمُ إلاّ الله ، نوافذُ السيارات مُغلقة ، المارّة يخفون أيديهم في جيوبهم اِتقاءً للبرد القارس ، قلما تُفتحُ نافذة , فيجري تامر نحوها ، يتشبثُ باليدِ التي مُدّتْ لهُ ، أحياناً كان يلتقطُ كلمات موجعة ، يأكلُ الطُعْمَ ثُمّ يُعاودُ إلى مكانهِ مُبتعداً عنها .
توقفت سيارةٌ بيضاءَ اللون ، انفرجتْ النافذةُ قليلاً : ( تعالَ أيُّها الفتى … تعال ) … سارع تامر بيدهِ الممدودة نحو النافذة ، كان هُناك رجل أربعيني أشقر الهيئة ، بجوارهِ تجلس امرأة جميلة تصغره قليلاً رُبما : ( اصعدْ … اصعدْ إلى السيارة ) … اِرتجفَ تامر للحظةٍ ، فتحتْ المرأة الحسناء الباب الخلفي ، صعدَ الطفلُ هذه المرة دون أن ينبسَ بكلمة واحدة ، عاودت عجلات السيارة الدوران ، مسافة قصيرة انقضتْ , ومالبثتْ أن انزوت إلى اليمين , وتوقفت …
نظر الرجل إلى تامر : ( لِمَ أنتَ هنا يا بني … أينَ أهلك ) … صعدتْ الدمعة المحبوسة من زمنٍ إلى عينيه الصغيرتين : ( لقد ماتوا … ماتوا … لم يبقَ إلاّ أنا وأختي الصغيرة رهف ) … عاجلتهُ المرأة بسؤالٍ آخرَ : ( أختك ؟ أين هي ) … ( إنّها هناك في مدخل البناية يا سيدتي , حيثُ نعيش ) .
ساد الصمتُ هنيهة ، كان المطر مازالَ يتقاطرُ على دفعات ، يالهذا الزمن اللعين : ( دلّنا على ذلك المكان … هيا … صحيح ما اسمكَ يافتى ؟ ) … ( تامر يا سيدتي … تامر … وأختي رهف ) … اتجهت السيارة إلى حيثُ أشار الطفل ، لم يكن المكان بعيداً ، دقائق قليلة فقط تمرّ مُهرولةً ، كانت كافية لينْعُمَ تامر بالدفء : ( هنا … هنا … ) … توقف الرجل الأشقر ، هبطَ الجميع من السيارة ، الصغيرةُ رهف كانت مطوية على نفسها ك شرشفٍ بالٍ ، نائمةٌ هي رغمَ البرد الذي يخترق جسدها ، سمِعَ الرجل أنيناً خلفهُ , نظرَ إلى مصدره , كان يظنّ بأنهُ صوت الفتى ، لكن زوجته كانت تبكي بصمتْ : ( لا عليك يا زوجتي لا عليك ) …
جمع تامر وأخته أشياءهما الرثّة ، صعدا إلى المقعد الخلفي حسبما طلب الرجل ، ثُمّ انطلقَ الجميع .
هناك في زاويةٍ مُهملةٍ منَ العاصمة توقف الرَكْبُ : ( ستسكنُ هنا أنتَ وأختكَ يا تامر … سوفَ أمرُّ عليكم بين فترةٍ وأخرى ، لن تحتاجوا شيئاً بعد اليوم ) …
غرفةٌ صغيرة فيها مستلزمات الحياة ، دافئةٌ جداً ، راقتْ للفتى فجرى مسرعاً نحو الرجل ، حاولَ أن يتناولَ يده ليُقبلها , فسحبها بشدة : ( لا يابني … لا … أنت وأختك في عهدتي بإذن الله ) …
أخرجَ من حقيبةِ زوجته رزمةً من المال وناولهُ إياها ، كانت كبيرة : ( أنا أبو ابراهيم ، وهذه زوجتي ثراءْ … ) وأردفَ : ( سأكتب لكَ رقم هاتفي وعنواني ، غداً اشتري هاتفاً واتصلْ بي ) …
غادرَ أبو ابراهيم مع زوجته ، تحادثا طِوالَ الليل عن ذاكَ الطفل وشقيقتهُ الصغيرة ، وعن قصص كثيرة تشبههما إلى حدٍّ بعيد .
في اليوم التالي اشترى تامر هاتفاً صغيراً واتصلَ مع الرجل الأربعيني : ( هذا رقمي يا … أبتي ) …
لم يشأ أن يعود إلى الشارع مرةً أخرى ، اشترى عربة صغيرة ، حمل عليها بعض الخضار وأصبح يبيعها كل يوم .
كبُرت رهف ، دخلت الصف الأول في المدرسة ، لم ينقطع أبو ابراهيم وزوجته عنهما طيلة تلك الفترة ، استأجرَ تامر محلاً لبيع الخضار والفواكه ، نسي الماضي القاسي الذي عاشه منذ سنوات .
ذات يوم اتصل مع أبو ابراهيم ، كان هاتفه خارج نطاق التغطية ، وكذلك كان هاتف زوجته ثراء ، عاود الاتصال في اليوم التالي لكن لا جديد …
مرّ شهر وأكثر ، اختفى أبو ابراهيم وزوجته في صيفٍ ساخن , بكى تامر كثيراً ، بكت شقيقته أكثر : ( أين أبوينا يا رهف ) …
خمسة عشر عاماً مرت وكأنّها لحظات فقط ، تزوج تامر ، أصبح يمتلكُ محلاً فخماً لبيع الخضار والفواكه ومواد أخرى ، أصبحت رهف في السنة الثالثة بكلية الحقوق في جامعة العاصمة ، اشترى سيارة بيضاء كتلكَ التي كانت لدى أبو ابراهيم …
في أحد أيام أيلول خرج تامر مع زوجته في نزهة قبل حلول الشتاء ، كان يرتدي بذّة أنيقة مع ربطة عنقٍ رمادية ، بمصادفةٍ غير محسوبة مرّ من ذات الطريق الذي التقى فيه بأبو ابراهيم وزوجته في ذاك الصباح الكانوني ، عند المنعطف لفت انتباهه رجل أشعث الشعر ، يجلس على الرصيف وأمامه خرقة بالية عليها بعض النقود ، توقف بمحاذاته ، أخرج ورقة نقدية وقذف بها على الخرقة : ( هذا كثير , كثير يا تامر … مائة ليرة تكفي … ) …
رمقها بنظرة استهجان ، لم ترقْ لهُ كلماتها اللئيمة ، فتحَ النافذة مرة أخرى مصوباً نظراته إلى الرجل القابع بخنوع ، فتح الباب هذه المرة , قفز من السيارة البيضاء , رمى بنفسه في حُضنِ الرجل الذي جاوز الستين …
________
3/7/2019م