كتب : محمد حسني عبدالباقي .
شعور مخيف بفقدان الأمان ، الأجساد ترتعد من شدة البرد القارص ، أحشاء الضحكات احتضنت أحزانا دفينة ، صراخ بوجع لا يستطيع ايقافه شيء ، إحساس بعجز ينبش أحشاءنا ليوقظ ليل الشتاء الطويل ، تزداد المشاعر التائهة فتعصف كياننا وكأنها علمت بما حل بِنَا من قلة حيلة وهوان ، تحول الطريق الكبير إلي ممر ضيق لم نعد نرى فيه إلا دنو الدنيا .
والأعماق تتساءل : ماذا حدث ؟! وكيف انقلبت بوصلة الحياه فجأه وتبدلت الأماكن في لمحه من الزمن ؟! وما تلك البرودة اللعينة التي هزمت الأمان ؟! . تغيرت بوصلة اتجاهنا لتعلن ” أننا لم نعد كما كنّا ” ، فإن أصعب الإنكسارات تلك التي بلا صوت ، فنهرول لنبحث في ذاك الصندوق البعيد عن ملابس ثقيلة كي تقينا شر برد لا يرحم ، كي نستدين منها أمانا مؤقتا ، وفجأه نكتشف أن الشتاء لم يأتِ بعد ، بل صرنا نشعر بالبرد في عز نسمات الربيع ، وما الملابس الثقيلة التي نبحث عنها إلا أمان افتقدناه برحيلك يا أمي .
كنتِ دوما يا أمي تستوصينا خيرا بالناس ، وكنا كثيرا ما نشعر بالضجر والتذمر من تكرار وصيتك ، حتي في لحظات النهاية أكدتِ نفس الكلمات ، والنفس البشرية تتساءل : ما كل ذلك الإصرار علي حب الناس حتي في لحظات الرحيل ؟! ففي تلك اللحظات لا يفكر الإنسان إلا بنفسه وفقط ، إلا بما ينتظره من مجهول لا يعلم أركانه إلا الله ، وكان المقابل علي الجانب الآخر دموع ودعوات في عيون كل من سمع برحيلك . وجاءت لحظه الكفن الأبيض ، فكنتِ يا أمي كبدرِ في ليله تمامه ، فهمست دواخلي لروحك الطاهرة لتسألك من الفائز اليوم ؟! .
تركَ وداعكِ يا امي وراءه غروب جريح وشروق مبتسم ، ترك إرثا كبيرا من حب الناس ودعواتهم ، نبل التصالح مع الذات ، ترك شجنا سكن ملامح الهدوء الذي كان ، وأنفاس تخرج إلي الداخل ، وصار الحلم نهايته اللقاء في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر حتي لا تموت الأحلام ، وإن كان قلبك قد توقف عن النبض سيحيا لينبض بدواخلنا .
تعلمنا من صبرك ، بساطتك ، ابتسامتك وسلامك الداخلي كل معاني الحياة الجميلة إلا معني واحد فقط : كيف في غيابك ستخرج الأنفاس بنفس سلامها الداخلي ؟! ، فأنتِ يا أمي ربيع الأحلام في خريف منتظر ، نسمات المطر في حرارة صيف ، أنتِ الشمس في ليالي الشتاء القاسية ، أنتِ يا أمي كمأوي عشش فيه الحلم ليحتوي الآلام ، وطن سكن فيه الأمان .