بقلم / الدكتور علي عبد الظاهر الضيف
استكمالا لسلسلة مزبلة التاريخ تعالوا معنا ندخل إلى مزبلة حقيقية في مدينة فاس المغربية ووسط هذه المزبلة بـ (التعبير الحقيقي) نجد قبرا .. لنقترب أكثر لنشاهد ما كتب في لافتة تعريفية بصاحب القبر : هنا يرقد الأمير الغالب بالله أبو عبد الله محمد بن الأحمر .
أبو عبد الله محمد بن الأحمر
إنه محمد الصغير الذي بسببه ارتكبت أبشع المذابح في المسلمين، أما كيف ولماذا تم ذلك؟ فتعالوا معي في رحلة تاريخية لنعود إلى الوراء عبر خمسة قرون مضت كي نتعرف على تلك الشخصية التي دخلت المزبلة من أوسع أبوابها :
نحن على موعد مع محمد بن علي بن سعد أخر أمراء بني الأحمر الذي حكم مملكة غرناطة في الأندلس فترتين بين عامي (1482 – 1483) وعامي (1486 – 1492).
الأندلس التي شهدت قمة ازدهار الحضارة الإسلامية والتي أطلق عليها الفردوس المفقود حيث ظل المسالمون هناك خمسة قرون تعلمت أوروبا منها ومن كتبها أخذت أوروبا حضارتها التي هي في الأصل حضارتنا .
هو آخر ملوك الأندلس المسلمين الملقب بـ (الغالب بالله) !، استسلم لفرديناند وإيزابيلا يوم 2 يناير 1492. وسماه الإسبان el chico (أي الصغير) (أبو عبديل)، بينما سماه أهل غرناطة الزغابي (أي المشؤوم أو التعيس).
حاول غزو قشتالة عاصمة فرناندو فهُزم وأُسر في لوسينا عام 1483، ولم يفك أسره حتى وافق على أن تصبح مملكة غرناطة تابعة لفرناندو وإيزابيلا ملوك قشتالة وأراجون.
الأعوام التالية قضاها في الاقتتال مع أبيه أبي الحسن علي بن سعد وعمه أبي عبد الله محمد الزغل.
حكم أبو عبد الله الصغير غرناطة وعمره 25 عاما بينما كانت الأندلس قد انكمشت من جهة الجنوب إلى مملكتين هما مملكتي مالقة وغرناطة. في نفس السنة هاجم الأسبان إمارة مالقة ليستولوا عليها ويبيدوا من كان بها من المسلمين إلا أن عبد الله الزغل هزمهم هزيمة نكراء وأعطى المسلمين الأمل في ارجاع كرامتهم المفقودة. ولكن، أبا عبد الله الصغير قد شعر بالغيرة من أبي عبد الله الزغل عند ظهوره كبطل شعبي يعطي الأمل للمسلمين، وقام بالهجوم على الأسبان لكنه هزم شر هزيمة ووقع في الأسر لمدة عامين وخرج بعد توقيعه اتفاق سري مع ملك إسبانيا فريدناند وزوجته ايزابيلا.
في عام 1489 استدعاه فرناندو وإيزابيلا لتسليم غرناطة، ولدى رفضه حاصرا المدينة، فقام عبد الله الصغير بتوقيع اتفاق ينص على تسليم غرناطة، على الرغم من رفض المسلمين لهذه الاتفاقية.
كان حريصا في المقام الأول على ضمان خلاصه وممتلكاته، بل عقد هو ووزراؤه مع النصارى صفقة حصلوا بمقتضاها على ضياع وأموال نقدية، ولذلك حينما تسربت أنباء الصفقة ومعاهدة تسليم غرناطة عم الحزن والأسى ربوع المدينة، وانتفض مواطنوها للدفاع عنها، وكان المفترض حسب اتفاقية ابو عبد الله مع الملكين الكاثوليكيين أن تسلم غرناطة في السادس من يناير عام 1492م، إلا أنه بعد أن تسربت أنباء الاتفاقية، وحدثت احتجاجات عنيفة في غرناطة وبسبب رفض أهل غرناطة لهذ الاتفاقية، اضطر المسلمون إلى الخروج في جيش عظيم للدفاع عن المدينة، ولأن أبا عبد لله الصغير لم يستطع الإفصاح عن نيته في تسليم المدينة، قام بدب اليأس في نفوس الشعب من جهات خفية.
بل وصل به الخبث إلى أن طلب من فرناندو وإيزابيلا تقديم ميعاد التسليم خمسة أيام، وفي ليلة الأول من يناير سمح لفرقة من القوات النصرانية بالدخول سرا إلى قصر الحمراء، ويبدو أن إدخال النصارى ليلا إلى قصر الحمراء كان مقصودا به عدم إفلات الأمور من يد أبي عبد الله الصغير، وتسليم المدينة قبل أن يطيح به الثوار، وتم توقيع اتفاقية عام 1491م التي تنص على تسليم المدينة وتسريح الجيش ومصادرة السلاح.
وحانت لحظة التسليم :
تصف الروايات التاريخية هذا المنظر المؤثر، فتقول إن أبا عبد الله حين رأى فرديناند ، قدم إليه مفاتيح قصرالحمراء (مقر الحكم في غرناطة) قائلاً :
“إن هذه المفاتيح هي الأثر الأخير لدولة العرب في إسبانيا، وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا، هكذا قضى الله، فكن في ظفرك رحيما عادلا !”.
وسار أبو عبد الله بعد ذلك صحبة فرديناند إلى حيث كانت الملكة إيزابيلا، فقدم إليها تحياته وخضوعه، ثم انحدر إلى طريق البشرات ليلحق بأسرته وخاصته.
وفي نكسة كبيرة وفي ظلِّ الذل والصغار يخرج أبو عبد الله محمد بن الأحمر الصغير آخر ملوك المسلمين في غرناطة من القصر الملكي، ويسير بعيدًا في اتجاه بلدة أندرش، حتى وصل إلى ربوة عالية تُطل على قصر الحمراء يتطلع منها إليه، وإلى ذاك المجد الذي قد ولَّى، وبحزن وأسى قد تبدَّى عليه لم يستطع فيه الصغير أن يتمالك نفسه، انطلق يبكي حتى بللت دموعه لحيته، حتى قالت له أمه (عائشة الحرة) المقولة التي لا ينساها المسلمون طيلة حياتهم :
“أجل .. فلتبك كالنساء مُلْكًا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال ”
كانت هذه الكلمات آخر الكلمات الإسلأميه الحاكمة الباكية على أرض الأندلس التي نطقت بها عائشه أم أبي عبد الله الصغير آخر أمراء الأندلسين..
وإلى هذه اللحظة ما زال هذا التل الذي وقف عليه الأمير الأخير موجودًا في إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه، يتأمَّلون موضع هذا المَلِك الذي أضاع مُلكًا أسسه الأجداد، ويُعرف (هذا التل) باسم (زفرة العربي الأخيرة) (بالإسبانية: el último suspiro del Moro)
بعد النكسة التي مر بها المسلمون بسببه، غادر أبو عبد الله الصغير من الأندلس إلى فاس حيث أخذ بأسرته وماله ومتاعه من ثغر المرية إلى المغرب الأقصى في سفن أعدت له 1493م ونزل أولاً بمليلة، ثم قصد إلى فاس واستقر بها، وتقدم إلى ملكها السلطان محمد مستجيرا به، معتذرا عما أصاب الإسلام في الأندلس على يده، وعاش هناك حياة لم يعرف أحد عنها شيئا حتى مات عن عمر يناهز الخمسة والسبعين عاما متهماً بالعار والخيانة والتفريط .
ومنذ تسليم غرناطة فتحت صفحة سوداء في التاريخ الإسلامي بالأندلس في أكبر عملية تطهير عرقي شهدها التاريخ، حيث هدف فرناندو وإيزابيلا إلى محو الوجود الإسلامي في أوروبا تماما، لتفتتح محاكم التفتيش في التعذيب والقتل والنفي، وبدأت هنا معاناة
أهل الأندلس من المسلمين فقد كانت محاكم التفتيش تجبرهم على التنصير أو الموت وقد تمسك أهل الأندلس بالإسلام ورفضوا الاندماج مع المجتمع النصراني. وخوفا من العقاب الرهيب الذي ينتظر أي شخص مازال على دينه فقد تظاهر البعض بالنصرانية وأخفوا الإسلام, فكانوا يتوضؤون, يصلون ويصومون… كل ذلك خفية عن أعين الوشاة والمحققين.
ولكن لم تنته مشكلة المسلمين هنا بل كانوا يجبرون على الأكل في شهررمضان أمام العامة ويجبرون على شرب الخمر وأكل الخنزير وغيرها من ممنوعات الدين الإسلامي ليتم التصديق بأنه لايخفي إسلامه أو صيامه أو صلاته أيضا، بل وصل الأمر إلى إخفاء قصاصات القرآن، ولكن ماذا اذا تبين للسلطات بأن شخصًا ما مسلما في السر فقد كان يتعرض لوسائل تعذيب يشيب لها الولدان من تقطيع وسلخ وهم أحياء والحرق حيا، ليمارس فيهم ما لم تعرفه البشرية من وسائل تعذيب شيطانية تبقى إلى الآن عارا يندى لها جبين الإنسانية .