قالوا قديما :لا يفتى ومالك في المدينة .
وهذا لمكانة الإمام مالك في العلم .. ولكن إليك هذه المفاجأة :
هل تعلم أن الإمام مالك سئل عن أربعين مسألةً، فقال في ست وثلاثين: «لا أدري» !!!
ومع ذلك فهذا لم يقلل من شأن هذا الإمام الكبير صاحب المذهب الفقهي المعروف بل بالعكس تماما ظل كما هو قامة كبيرة في عالم الفقه، كان لا يتحرج من قوله «لا أدري»؛ لخطورة تلك المسؤولية على عاتق كل عالم .
مالك بن (أنس بن مالك) صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (لا أدري) ويأتيك (فسل) لا قيمة له ويفتي ويتجرأ على الحلال والحرام لمجرد أنه عرف بعض العلم .
حكى (بكر عبد الله أبو زيد) في كتاب حلية طالب العلم :
قيل إنَّ العلم ثلاثة أشبار :
” إذا تعلم الإنسان الشبر الأول تكبّر ..
ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثاني تواضع …
ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئاً … “
ومن هنا تعلم سرَّ وجود المتكبرين من أهل العلم …إنهم لم يتجاوزا الشبر الأول من العلم .
كثير من الناس هم ( أبو شبر … )
بمجرد حصوله على بعض العلم يرفع نفسه فوق هامات البشر ويرى نفسه في مستوى أرقى من غيره ويدعي الحصول على كل أطراف العلم، ثم يجادل بل يتهم غيره بالجهل !
ها هو الإمام الشافعي عبقري عصره الذي لم يستطع أحد أن يجادله لغزاره علمه وشدة ذكائه والحكايات التي تشهد بعبقريته مشهورة وقد سجلها له التاريخ يقول :
كلما أدبني الدهر أراني ضعف عقلي
وكلما ازددت علما زادني علما بجهلي
اربطوها مع مقولة الإمام مالك (لا أدري) لتعرفوا أنه كلما ازداد الإنسان علما اقتنع بأن العلم بحر لا نهاية له فيبزداد تواضعا.
ها هم عباقرة الفقه الإسلامي الذين تعلمت على أيديهم أمة كاملة يقرون بأن الإنسان كلما ازداد علما ازداد علما بجهله ، في حين نجد المغرور ينطبق عليه قول القائل :
إذا امتلأت كف اللئيم من الغنى تمايل إعجابا وقال أنا أنا
ولكن كريم الأصل كالغصن كلما تحمل أثمارا.. تواضع وانحنى
والغنى هنا ينطبق على كل أنواع الغنى سواء بالمال أو العلم ، ومصيبة الداخلين في شبر العلم الأول ، هو الفراغ الذي يملأ عقولهم … فالأواني الفارغة دوما تحدث ضجيجا أعلى من الأواني الممتلئة .
انظروا كيف تعامل النبي موسى وهو كليم الله مع الخضر وقد وضع نفسه في مكانة التلميذ وهو من هو فيقول له : “هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا … “
روى الإمام البخاريُّ في صحيحه: أنَّ موسى – عليه السلام – ” قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا …سألوه :هل على هذه الأرض أعلم منك يا موسى؟ …
ففكَّر موسى، وهو النبي وهو المؤيَّد بالمعجزات، وهو كليم الله ربِّ السماوات، فقال: أنا
حيث ظنَّ أنه أعلم من على الأرض، و لم يقل الله تعالى أعلم، لم يراجع ربَّه في المسألة وتعجَّل الإجابة، فعتب الله عليه وأوحى إليه بأن هناك من هو أعلم منك “وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ” فذهب موسى إلى الخضر وكان ما كان من قصته معه .
نعود إلى أبا شبر، هذا النوع تجده دائما عندك في العمل فنجده مشهورا بكلمة (أبو العريف) الذي يفتي في كل شيء ولا يعجبه أي شيء ويتعامل مع مرؤوسيه في العمل بكل غرور وتعالٍ ، وتجد أولاده معقدين نفسيا من أسلوبه في التعامل، فكلهم بما فيهم الأم (شوية بقر) وهو العالم الوحد في كل الأمور.
خطورة الشبر الأول هو امتلاك المعلومات دون تطبيق، فهو قد يمتلك البعض منها ولكنه يدخل في إطار قوله تعالى 😞 لِمَ تقولون مالا تفعلون ] …
تجده على الفضائيات يفتي في كل شيء ويرى نفسه دوما على حق ومنهم كثير من أنصاف العلماء من المشايخ الذين طفحوا على الساحة وبنظام (خالف تعرف) يأتي لك بفتوى شاذة تعتمد على رواية ضعيفة ويستميت في الدفاع عنها حتى يثير الجدال حوله، فتزداد شهرته .
أو أن ينال أحدهم الدكتوراه ويُسبق اسمه بحرف الدال فيبدأ في الهجوم على علماء هو نفسه لم يحلم يوما بالجلوس معهم فيشن عليهم حربا شعواء:
فالبخاري لا يصلح لزماننا، والأئمة الأربعة لا يعرفون عشر ما لديه من كنوز ثمينة من المعلومات، والألباني مدقق الأحاديث لا يعلم شيئا !
بل يتهكم على أمهات الكتب ويدعي أن علمه يفوق ما فيها !
وتجد هذا النوع يتقرب إلى السلطة لينال الرضا السامي وينتقي الفتاوى التي ترضيهم حتى لو خالفت إجماع أئمة الأمة فعلمه الغزير يحتاج إلى دفعة من هؤلاء حتى ينشره، ضاربا عرض الحائط بأخلاق العلماء .
وتجد بعضهم على مواقع التواصل الاجتماعي يركبهم الغرور فتجدهم دوما يسبون غيرهم ويتعاملون بغرور وتعال مع متابعيهم، فهم الأفضل وهم الأعلى وهم أهل العلم وهم عباقرة عصرهم وهم معصومون لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم وما خلفهم .
ومع تشكيلة من مهارات الجدال مع بعض وبعض العبارات الرنانة والكلمات ذات الوقع الكبير على الأذن ينتشرون ويصلون إلى أعلى المراتب .
في حين أن أصحاب العلم الحقيقي لم يهتموا بالظهور ولم يلهثوا وراء الشهرة وقد تنتشر كتبهم في كل أنحاء الأرض ولم ير وجوههم أحد فِي وسائل الإعلام، فكتبهم وعلمهم خلد ذكراهم بينما (تلاميذ من تتلمذوا على يد تلاميذهم) تتزاحم على عتبته الميكروفونات والكاميرات !
ليقفز أمامي بيتا المعري :
رأيت الدنيا ترفع كل وغد وتخفض كل ذي ذمم شريفة
كذاك البحر يرسب فيه در ولا تنفك تطفو فيه جيفة