بقلم/الدكتور علي عبدالظاهر الضيف
جلس ستة أطباء في مقهى يطل على ناصية الشارع يتناقشون في مستجدات الطب والعلم الحديث وتكنولوكيا العلاج، ويتناولون الشاي والقهوة، بينما هم على ذلك إذ مرّ أمامهم رجل يعرج في مشيته !!
نظر إليه أحد الأطباء متمعنا وأشار بسبابته قائلا : هذا مصاب بالتهاب في مفصل ركبته اليسرى!
هز الثاني برأسه قائلا : لا لا ..فهذا لا يتعدى مجرد التواء في الكاحل.
قال الثالث : تأملوا جيدا .. لا تخرج إصابته عن التهاب أخمصي في وجه القدم.
قال الرابع: زملائي الأعزاء ، كيف غاب عنكم أنه، لا يستطيع رفع ركبته .. وتشخيصي هو خلل في خلايا عصب الحركة السفلى.
قال الخامس: الأمر أخطر من ذلك بكثير ..أعتقد أن لديه شلل نصفي.
تركهم الطبيب السادس يدلون بآرائهم الطبية ليأتي بخلاصة الموضوع، وهمَّ بالحديث لولا أن وصل الرجل إلى المجموعة، وسأل:
أين بإمكاني أن أجد أقرب إسكافي لإصلاح حذائي؟!!
واندفع صوت صرصور الحقل .. مع صمت رهيب، والكل يداري وجهه من زميله حرجا ! وتظاهر البعض بالانشغال بالموبايل، وهم البعض بالانصراف !
في الحقيقة إنهم انطلقوا جميعا من خلال رؤية ضيقة للمشهد الذي حرَّك خبرات دماغية عقلية لديهم، وكلهم تعامل مع الرجل على أنه مريض، ولم يفكر أحدهم بعيدا نطاق تخصصه ليتسرع في إصدار أحكام خاطئة .
لو حللنا سبب الوقوع في الخطأ لوجدناها تتلخص في التسرع، وإخضاع الأمر لوجهة نظر ضيقة لا تحيد عن سواها، والرغبة في إظهار الكفاءة الطبية أمام أهل الميدان وروح المنافسة .
هكذا كل منا يفسر ما يراه من الناس على هواه ويخضع تفسيره لوجهة نظره الخاصة
فلا يسلم المرء من قيل وقال من خلال تفسيرات الناس لتصرفاته .. وهو لا يعلم شيئا عما يدور في أذهانهم وينطلق على لسانهم، فيسمع الشخص عن نفسه ما لا يعرفه هو نفسه عن نفسه !
بلور هذه القضية فيلم اسمه “فتاة القطار” وهو مقتبس عن رواية من نفس الاسم للكاتبة البريطانية بولا هوكينز. تدور القصة حول امرأة مطلقة مدمنة على الكحول تذهب بالقطار إلى عملها يوميًا.. لفت انتباهها منزل يقع على الطريق، فاعتادت أن تراقبه جيئة وذهابا حتى أصبح تسليتها الوحيدة في مشاهد خاطفة سريعة ، لبيت يسكنه زوجان، تضاحك الزوجة زوجها الذي يحنو عليها فتارة تراه يقبلها، وتارة يحتضنها في حنان أبوي، فتتخيل رايتشل أن حياتهم مثالية، إلى أن يأتي اليوم الذي ترى فيه الزوجة تقبل رجلًا آخر! وتكتشف أن كل ما رأته ما هو إلا لمحات لا تعطي صورة مكتملة عن رواية نسجها خيالها لبيت نسيجه من عنكبوت وهي تظنه عرين الأسود ! وتنطلق أحداث الفيلم في إطار بوليسي لتظهر جرائم كثيرة أخفاها حسن ظنها وخيالها الجامح.
فليس كل ما يلمع ذهبا وليس المظهر دوما عنواناً للمخبر .فما نظنه مفتاح الإنسان ما هو إلا كمفتاح الباب لا يعبر عن حجم البيت أو مدى فخامته أو وضاعته، فكل المفاتيح تشبه بعضها البعض، والحكم على البيت لا يكون إلا بعد فتحه بالمفتاح، وهكذا الإنسان لا نعرف دواخله وجوانب القوة والضعف والعظمة أو الحقارة فيه إلا بعد الدخول في عالمه الخاص، وتجربته في أكثر من مواقف، تلك المواقف هي التي تكشف الإنسان، وليس مجرد القشرة التي تغلفه من الخارج، والتي تخفي أكثر ما تظهر.
نصيحتي لكم لا تتسرعوا في الأحكام ولا تنخدعوا بالمظاهر، ذلك الخطأ الشنيع الذي ترتب عليه أن غالبية حالات الطلاق قد نبتت من أرض غير مهيأة للإنبات نتيجة الحكم غير السليم بالمظهر والتسرع في قبول الطرف الآخر.
وحالات النصب التي استشرت في المجتمع واتخذت أشكالا يعجز إبليس نفسه عن إيجاد مثلها بل يقف أمامها متعجبا !
يترتب على ذلك أيضا التقليل من شأن الكفاءات وإعلاء الفاشلين من خلال الحكم بالمظهر ، وكم من مواهب حكم عليها بالإعدام نتيجة مظهر صاحبها الذي لم يعجب البعض
والقليل جدا من استطاع أن يقهر ظروف مظهره الخارجي حيث يحتاج الأمر إلى إرادة حديدية كسوشيرو !
سوشيرو …ذلك الشاب الفقير الذي كانت أقصى أمانيه هي أن يبيع إحدى قطع الغيار التي قام بتصميمها إلى شركة تويوتا,وهو حلم كبير جدا على شاب في مقتبل عمره وما أن انتهى حتى توجه إلى مصنع تويوتا ليحقق حلمه ويبيعها لهم، في الحقيقة إن مظهره لا يعطي انطباعا لأحد أنه عبقري ومخترع .. رفض مصنع تويوتا, ولكنه ظل متمسكا بحلمه فحاول مرة بعد مرة إقناعهم بتصميماته وشخصيته الفذة حتى نجح في النهاية بعد جهد جهيد في إقناعهم بشراء قطع غيار من تصميمه.
وقرر بما حصل عليه من مال أن يؤسس مصنعا ينتج قطع غيار السيارات .
كان قراره الطموح في ظل أجواء صعبة حيث دخلت اليابان الحرب، وكان مصنعه يحتاج مواد خرسانية للبناء، وهذا ما لا سبيل إليه في ذلك الوقت، فما كان من هذا العبقري إلا أنه اخترع خلطة خرسانية واستطاع بناء مصنعه ..وبدأت أحلامه تتحقق أمام عينيه ويربح الأموال، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. فقد كانت الحرب العالمية على أشدها فقصفت الطائرات الأمريكية المصنع.. ودمرت معظمه !
هل ييأس صاحبنا ؟
دفعته إرادته الحديدية إلى أن يفكر من جديد في مصدر دخل له، فجرب فكرة ظريفة.. كان لديه ماكينة لقص الحشائش.. فك موتورها وركبه في دراجة هوائية كانت عنده.. وبتعديلات بسيطة استطاع اختراع أول دراجة بخارية في اليابان !!!
تلك الدراجة التي حازت إعجاب العالم ما دفعه إلى تطوير فكرته يوما بعد يوم في الشكل والحجم والسرعة والإمكانات حتى نجح في النهاية..
صار صاحبنا من أصحاب والملايين جراء هذا الاختراع الذي نال به جائزة الإمبراطور لمساهماته الفعالة في المجتمع..!
وحقق حلمه أخيرا بإنشأ مصنعه الذي يعد من أكبر المصانع في العالم..
وهو مصنع (هوندا) للسيارات..!
بالمناسبة اسم هذا الرجل “سوشيرو هوندا”