نعاني في مجتمعاتنا كارثة كبرى تسمى الكسل الفكري، وهذا إفراز يبدو طبيعيا في عصور الاضمحلال العربية، فقد اعتدنا أن نكون مستهلكين، نقتات على موائد الغرب، ونقرأ شعارات عنترية جوفاء من قلب الكتب الصفراء، ونرفع عقيرتنا بأننا : كنا وكنا وكنا، حتى يملُّ منا فعل الكينونة، ونملُّه ويملُّ منَّا السامعون !
نريد الحلول الجاهزة ولا نريد العمل، ما أسهل أن تأتيك رسالة صباحية على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، فلا تكلف نفسك عناء القراءة فترد بورود صباحية أو دعاء في إطار ذهبي جميل ترسله إلى عدة أشخاص، فتتحول المشاعر إلى أحاسيس إليكترونية باردة !
وهذه السلبية قد تسربت إلى العقول والسلوكيات، فتظن مثلا أن هناك أطعمة وأعشاباً ستحرق دهونك وتخلصك من الكرش وأنت نائم في سريرك، وقس على ذلك أن مزيداً من الفيتامينات والمقويات ستعطيك طاقة ونشاطاً وأنت جالس على أريكتك المفضلة فستظل جالساً علي الأريكة حتي تموت وستملأ الصرف الصحي في بيتك بالفيتامينات والمقويات!
وسأغالب خجلي وأقول إنه حتى في مجال المعاشرة الزوجية فهناك من يستسهل الأمر للحصول على نشوة زائدة بالمقويات الجنسية، فانتشرت (الفياجرا) بكل صورها وأشكالها حتى بين الفئات العمرية التي لا تحتاج إليها في الأساس، ولكنَّه الكسل في إيجاد طرق متطورة للسعادة الزوجية، و لو كانت مصطنعة تنهك الجسد والأعصاب، حتى الحب أصبحنا نمارسه بلا إحساس، فلا رياضة تُمارس ولا كتاب يُقرأ، والجدب والعقم الفكري سيد الموقف .
-وفي مجال حل المشكلات ما أسهل الشماعات الجاهزة التي نعلق عليها أسباب كل مشاكلنا، ولو لم نجد شماعة لصنعنا شماعة تستوعب إخفاقاتنا بجدارة من صنع خيال كان أولى له أن يصنع أفكارا جديدة لحل مشكلاته !
المصيبة في سيطرة الهاجس على بعض الناس، وهذا الهاجس قد نبع من سببين غير منطقيين أولهما أن مشاكلك كلها سببها أحد غيرك، وفي الحقيقة أن “غيرك” هذا لو مات واختفى من على وجه الأرض فسوف تتفاقم مشاكلك، ولن تختفي وستبحث عن “غير” آخر لتلومه، وشماعة أخرى تعلق عليها فشلك !
والطامة الكبرى التي تعوق أي تقدم وهي مأساة الخوف من الحسد، ولا أدري لماذا لا يوجد في المجتمعات التي لا تؤمن به؟ فنجد الغرب ينشرون صور أبنائهم الأطفال الذين يتمتعون بجمال رائع ولا يصابون بالعين مثلما يصاب به أبناؤنا إذا نشر أحدهم صورة لهم، فتأتيه المصائب فرادى وجماعات !
الحسد لا ينكر أحد وجوده، وهو سلوك لا يليق بمسلم ويجب علينا تجنبه، ولكن المستنكر أن يسيطر على تفكيرنا فيصبح أسهل شماعة لتبرير فشلنا دون أن نفكر في أسباب منطقية عملية،
فإذا سيطر هذا الخوف على أحدهم فكل المصائب التي تأتيه سببها حسد الناس له، وفي الحقيقة أنه لو سافر إلى أبعد مكان في الدنيا حيث لايعرفه أحد فلن تضل المصائب طريقه إليه ، وسيظل يتهم جاره (چورچ) وزوجته (ماريا) بأنهما ضرباه عينا في الصميم !
فلو أن للحسد هذه القدرة الخارقة فلنجتمع جميعا ولنحسد أمريكا على قوتها ولنحسد اليابان على تقدمهم ولنحسد إسرائيل على صفاقتها معنا وسيطرتهم وهم حفنة من الملايين على 22 دولة عربية، ولنحسد الغرب على قدرته على اتهام المسلمين بالإرهاب وهم من اخترعه !
التركيبة النفسية للمخلوق الاتكالي دوما تبحث عن تفسيرات لا منطقية لتبرير الفشل، فهو لا يخطئ أبدا، والشماعات جاهزة وتتناسب مع مقاس كل حالة فشل .
نعيد التأكيد على أن الإحساس بالمشكلة هو أول خطوة لحلها، وطالما فقدنا الإحساس بها فسوف تظل موجودة وتتضخم، بل تتشكل في صورأخرى ، لذلك فالإحساس نعمة وفقدانها نقمة .
مجتمعاتنا تعجز عن التفريق بين التوكل والتواكل، فنجد أحدهم يتكاسل عن حل مشكلته منتظرا أن يرسل الله ملائكته لحل مشكلته وتخليصه من أعدائه دون أن يجهد نفسه في حلها فهو رجل طيب ويستحق كل خير !
ومما نتعجب له أن يسيطر هذا الكسل الفكري علينا في الوقت الذي نحتاج فيه على كل قطرة عرق ونتحمل المسؤولية في حالة الخطأ، فالعاقل من يلوم نفسه إذا أخطأ والفاشل هو من يوجد المبرررات ؛ حتى لا يتحمل تبعة الاعتراف بالخطأ فثقافتنا الحالية تعتبر (الاعتراف بالحق فضيحة) وليس (فضيلة) كما كنا قديما !
من إفرازات الكسل الفكري الخطيرة السرقات العلمية التي أصبحت ظاهرة بارزة، فهناك من ينسب الكتب لنفسه، وهناك من يسرق الأبحاث من الأساتذة الجامعيين، ويقدمها للترقية، حتى البحوث التي نكلف بها الطلاب للتدريب على البحث العلمي يتكفل بها العم (جوجل) الطيب الذي لا يرد أحدا ولا (يكسف) طالبا !
فضاع العلم بين النسخ واللصق، فلا إبداع ولا امتلاك لأدوات البحث العلمي والنتيجة مخرجات تعلُّم تأتي بالعار ولا تأتي بالفخار !
وهذا يحيلنا إلى عنوان المقال، فهو صرخة في أذن كل الجهات المعنية بتربية وتنمية العقل العربي أن تعيد ترميم العقل العربي ؛ فالبكاء على الأطلال لن يجدي نفعا على ماض أصبحنا نحن أنفسنا عارا عليه ، أو كما قال عبد الحليم حافظ :
(لو كان الدمع يجيبه كنت أبكي العمر عليه) !
نحتاج وعيا بما يحدث حولنا ونحن عنه غافلون.
نحتاج إعلاما يبرز وجه الحقيقة بلا مداراه أو محاباة .
نحتاج تهيئة المناخ الفكري للإبداع وإتاحة الفرصة لاستيعاب كل الأفكار.
نحتاج مدرسة تكون صرحا للعلم والتربية وجامعة تكون جامعة للعلم والفكر والفن.
نحتاج أقلاما تطرح مظاهر المشكلة وتبحث لها عن حلول لترميم العقل العربي .
نحتاج يقظة فكرية في كل النواحي وتفعيل دور المثقف .
فالكارثة تدق ناقوس الخطر وإن لم يتم ترميم العقل العربي فبل فوات الأوان فلا نلومنَّ إلا أنفسنا .