حان يوم زفافه ، كان سعيدًا بالفعل ، إن كان زواجه من ملك لا يسعده ، فتلك السيارة الفارهة التى أصبحت أول ما يضع عليه يده من ميراثه تسعده كثيرًا ، ها قد نجحت خطوته الأولى ، أيام قليلة ويطالب والدته بتأسيس شركة مناسبة له ، فهو قد أصبح رب أسرة وليس من المعقول أن ينتظر مصروفه منها يومًا بعد آخر.. عليه أن يبدأ العمل، سيطالبها أيضًا برصيد ضخم في البنوك لتمويل مشروعاته و……..
زفر في ضيق وهو يضبط رابطة عنقه، لماذا يشعر بتأنيب الضمير الآن ؟! منذ متى كان يسمح للعواطف بوضع بصمتها عليه ؟!
نعم .. عليه أن ينتهى من كل هذا سريعًا ليعود إلى أمريكا وإلى سوزان حبيبته، لا وقت للتردد، كل شيء يسير كما خطط له تمامًا
تأمل نفسه في المرآة للمرة الأخيرة ، سوف يذهب الآن لإحضار عروسه من عند مصفف الشعر، زفر بضيق من جديد.. كم كان يتمنى أن تكون سوزان هى الجالسة بجواره الليلة !
خرج إلى الردهة، ابتسم وهو يرى نظرات والدته التى تعلقت به، همس قائلًا :
– ما رأيك يا أمى ؟
حاولت أن تطلق زغرودة طويلة، ولكنها بدلًا من هذا وجدت نفسها تنتحب بعنف وهى تضمه إليها في حنان، سكن طويلًا بين ذراعيها قبل أن يبعدها برفق وهو يتصنع الغضب قائلًا
– كفى يا أمى، لقد بللت سترة زفافى، كيف سأقابل ضيوفى الآن ؟
راحت تمسح سترته بكلتا يديها وهى تغمغم بدموع لم تتوقف بعد :
– اعذرنى يا ولدى، إنه اليوم الذى انتظرته طيلة عمرى وكنت أخشى أن أموت قبل أن أراه
طبع على جبهتها قبلة طويلة قبل أن يهمس بصدق :
– أطال الله لى في عمرك يا أمى وأدام لى رضاك في كل الظروف
جفف دموعها بمنديله ونظر في عينيها قائلًا :
– أنا أحبك يا أمى، أحبك كثيرًا، مهما صدر منى، مهما فعلت في لحظة طيش ورعونة فاغفرى لى، لا تغضبى منى أبدًا، أحيانًا تخرج الأمور عن إرادتنا وتضطرنا الحياة لفعل أشياء ربما بدت جرائم في عيون الآخرين
تعجبت عندما قبل يديها وأردف في شبه توسل :
– مهما استنكرت أفعالى وطيشى، أريدك أن تنظرى لى دائمًا بعين الأمومة فهى أرحم وأحن العيون
– ماذا بك يا ولدى ؟
– عدينى بأننى سوف أظل ابنك وحبيبك مهما بدر منى، قولى أنك لن تحرمينى من دعائك لى وصلاتك من أجلى، عاهدينى يا أمى
ظنته يعتذر عن عصيانه السابق لها، لم يخطر ببالها أبدًا ما ينوى أن يفعله بها أو بـ (ملك) أيضًا، غمغمت في صدق :
– لست محتاجًا لوعد وعهد، ستظل أنت ملء القلب وملء العين حتى الفظ أنفاسى الأخيرة
*****
أصر على أن تجلس ملك بجواره في ” الكوشة “، جلس مزهوًا بذاته رغم اعتراض المقربين منه الذى وصل حد التوبيخ من بعضهم، ما يفعله ضد عاداتهم وتقاليدهم، العروس يجب أن تبقى داخل المنزل مع النساء بينما يجلس هو في الخارج مع الرجال حتى ينتهى العرس، ضرب بحديثهم عرض الحائط غير عابئ به ، يجب أن تعلم القرية كلها بأنه أصبح مختلفًا وأنه لم يعد ذاك القروى الساذج الذى عاش بينهم قبل عشر سنوات مضت، فهو الآن ليس مجبرًا على الالتزام بعاداتهم وتقاليدهم البالية
حانت منه نظرة إلى ملك، كانت قد أحنت رأسها أرضًا، فستانها المحتشم والطرحة التى القتها فوق وجهها لتحجبها عن الحضور لم يخففا من شعورها بالرهبة والخجل، العيون كلها تحدق فيها وكأنها مخلوق عجيب يزور قريتهم للمرة الأولى
والدته كانت تأتى متلصصة من حين لآخر لتملأ عينيها منهما ثم تعود للداخل وتجالس النساء من جديد، كم كانت تود أن تتحدث إلى ملك قبل أن يختلى بها، ولكنه لم يترك لها فرصة لهذا الحديث، كان متعجلًا ومتملكًا ويصر على متابعة كل شيء بنفسه، أخبرتها سميرة بأنها تحدثت إليها وأن ملك تمتلك من العقل ما يكفى لبنات القرية كلها.. لكنها رغم هذا ما زالت تشعر بالقلق نحوها، ولمَ لا وملك هى ابنتها التى لم تلدها؟
لقد تلقتها منهم قطعة لحم حمراء صغيرة لحظة ولادتها، أخبروها يومها أن أختها قد تعثرت ولادتها وفارقت الحياة، وبقيت ملك معها.. لم تجد صعوبة كبيرة في إقناع زوج اختها الراحلة بذلك.. بل ربما وجدها هو فرصة مثلى للتخلص من عناء رعاية طفلة صغيرة خاصة وأنه كان الأصغر بين أخوته الذين انشغل كل منهم في شئونه الخاصة.. والدته المسنة لم تكن قادرة على رعاية طفلة وليدة بمفردها.. بل تعلل بوهنها ومرضها ليتزوج بعد ذلك بشهور قليلة زاعمًا بأنه يحتاج لمن ترعاه هو ووالدته
لم تفترق عن ملك أبدًا قبل الشهر الأخير التى أمضته عند سميرة، خالتها الأخرى، ما عاشته معها يفوق ما عاشته مع خالد ابنها، حتى قبل أن يسافر إلى أمريكا، ربما أجبرت خالد على الزواج منها ولكنها تأمل أن لا يعاملها بقسوة وأن يترفق بها، وسوف يقع في غرامها لا مفر، ملك تحبه كثيرًا ومن المحال أن يبادل حبها إلا بمثله
ولكن ليته يمنحها الفرصة لتعبر له عن هذا الحب.. !
تنبهت ملك أخيرًا إلى صوته الذى قارب الصراخ وهو يهتف باسمها وقد نهض واقفًا ومد يده إليها في صبر نافد، انتهى العرس وسوف تزف إلى عريسها الآن.. عريسها.. هو عريسها.. خالد.. أحقًا هذا ؟؟؟..
هو عريسها .. هل أصبحت زوجته بالفعل ؟؟ نهضت في حركة آلية وتأبطت ذراعه
تحول كل الحضور فجأة إلى ورود ملونة أحاطت بهما في صفين، تحول البساط تحت أقدامهما إلى سحب بيضاء قطنية، نبت لكلاهما أجنحة حملتهما فوق النجوم، أحقًا ما يحدث لها، أحلم العمر تجسد بين يديها أم أنها ما زالت فوق وسادتها الوردية، ليت صديقاتها يظهرن الآن، إحداهن فقط لتقرصها قرصة دامية تتأكد منها أنها لا تحلم وأن زواجهما حقيقة يراها الجميع !، هل يجب عليها أن تقوم بإحدى حركاتها المثيرة للجنون حتى تجبره أن يصفعها وينهى حيرتها..!
سقطت من سمائها ونثر الحضور حولها فجأة عندما احتضنتها خالتها قائلة :
– مبارك يا حبيبتى، لن أوصيك بـ خالد فأنا أعلم معزته عندك
التفت إلى ابنها وأردفت وهى تربت على كتفه :
– و أنت أيضًا يا ولدى لن أطيل عليك الحديث، كل ما أريده منك هو أن تعامل الله في معاملتك لـ ملك
ودعتهما وذهبت مع سميرة لتمضى بعض الوقت معها، سيكونان بمفردهما إذًا في هذا البيت الكبير، عاودتها الرهبة من جديد أعنف مما كانت
نظر إليها وابتسم في تردد، وصية والدته بشأنها ما زالت ترن في أذنيه، قالت أنها لن تطيل عليه الحديث ولكنها صدمته بعبارة تكرر نفسها بلا انقطاع كلما نظر إلى ملك، كيف سيعامل الله فيها وهو ينوى تطليقها بعد أيام قليلة.. ؟ شهور قليلة ويجب أن يعود بعدها إلى سوزان ليتزوجها كما وعدها
لقد أخبر سوزان بشرط والدته التى يجب أن ينفذه حتى تمنحه ثروته، معرفته بطباعها الأمريكية وطريقة تفكيرها العقلانية لم تمنع دهشته عندما وجدها تشجعه على الزواج من ملك، نعم، سوف لا يخسر شيئًا بل سيفوز بميراث ضخم.. ولكنه كان يأمل أن تتأثر سوزان ولو قليلًا وأن تبدى بعض الغيرة لأجله حتى ولو لم تكن الغيرة من طباعها، تبلد مشاعرها ولا مبالاتها أشعراه بأن كل اهتمامها منصبًا فوق أمواله التى سيحصل عليها
عاد ينظر إلى ملك من جديد، كانت واقفة تنظر إليه وقد شبكت أصابعها أمامها كطفلة صغيرة لا حيلة لها، لم ترفع بعد الغطاء الشفاف الذى يحجب وجهها عنه ولكنه ما ان نظر إليها حتى أحنت رأسها في حياء، ترى ماذا يفعل الآن معها ؟