اهتم العرب اهتماما كبيرا بالموسيقى ونظروا إليها كصناعة بإجلال واحترام، كما حظي المجيدون فيها بالعناية والتقدير حيث شغف بها الخلفاء والأمراء والفلاسفة والعلماء وأعطوها حقها من الرعاية والتقدير.
التراث العربي وصل إلينا من خلال عمليات إبداعية قام بها الإنسان العربي وهي نتيجة وخلاصة لتجارب وتصورات فكرية تداول الأجيال الجديدة بالإضافة والإبداع ومن ثم النقل والتجديد في سياق الإبداع التراثي المتأصل في التاريخ، لذا فإنّ مختلف المفاهيم المتعلّقة بالتراث والأصالة والحداثة والمعاصرة والتجديد يجب اعتمادها وتوظيفها من الجانب الايجابي لتكريس الحوار بين الحضارات لتكون النتائج ايجابية على جميع المستويات، لأنّ وضع هذه المصطلحات في سياق ايجابي يُساعد الشعوب العربية على إرساء خطاب ثقافي إبداعي يتجاوز أزمة التقليد والمحاكاة الغربية والاستعارة.
كما يساهم في تخطي ما يُعرف بالانغلاق عن الذات ورفض الأخر قصد الإبقاء على الأصالة لأنّ طرح موضوع الأصالة والحداثة أصبح يُشكل قسمة في الآراء والاعتقادات، حيث تكون النتيجة دائماً ذات ازدواجية بين مؤيّد ومفّند لهذين المفهومين وبذلك تفعيل الهوّة بين الموقفين، لذا وجب علينا التعامل مع الأعمال الإبداعية في سياقها الذي أُنتجت فيه دون التطرّق إليها انطلاقاً من أحكام مسبقة يمكن لها أنّ تعطي مغالطة لمضمون العمل في مدى اتصاله بالتراث أو الحداثة، لأنّ معنى الاتصال كذلك سيحيلنا إلى علاقة الثقافة بالتراث كمرجعية أساسية ينطلق منها المبدع بصفة عفوية في عملية التجديد وذلك أن الأعمال الفنية الجديدة لا يمكن أن تكون مبتكرة انطلاقاً من أفكار تأليفية حديثة، بل أنها ستكون عملية ابتكار نسبية تجمع بين الأفكار ,وبالتالي فإنّ الاتصال الثقافي في العملية الإبداعية ليس مجرّد نقل لعناصر أخرى تراثية ولكن هو عملية تفاعل وتواصل بين مختلف الثقافات.
فمن هذا المنطلق تأكيد على اعتماد التقاليد كي تكون هي المرجع الأساسي لمفهوم التجديد المتصل بالتراث، كما أنّ الأصالة الموسيقية لا تتمثل في تقليد القدماء بقصد الاعتراف بهم، بل في الاستفادة من أفكارهم وتجاربهم , وقد تطور فن الموسيقى في ركب الحضارة العربية إلى أن وصل إلى ذروة مجده حيث وصل إلى أعلى درجات الإبداع في إتقان السلم الموسيقي ,أن الحداثة تمثل القطيعة مع أي ممارسة فنية تراثية حيث أن البعض يعتبر الحداثة لها السمة الثورية على التراث الفني، فهي تعني التغيير الشامل وهو تغيير ثوري، وبذلك التجرد من كل ما هو موروث والخوض في الاندماج في ثقافات أخرى مخالفة لما هو متداول ومعهود.
كما أن مبدأ الاتصال والانفصال أدى إلى انقسام المفكرين في العالم العربي بين التأييد والتفنيد، فالنموذج الأوّل يتكئ على ضرورة التقيد بالثقافة الأوروبية وهو تأييد لمبدأ القطيعة مع التراث المحلي والانسلاخ منه وفي الجهة المقابلة يدعو النموذج الثاني إلى تدعيم القومية العربية وتكريس لمبدأ الهوية الثقافية وربطها بالتاريخ .
ولعلّه ينساق بنا كذلك إلى طرح إشكالية تتعلق بالتأقلم الاجتماعي والحضاري في ظل التحولات والتيارات الفكرية القومية الغربية التي تضع الثقافة الشرقية تحت الهيمنة والاختراق لمبادئها وتقاليدها في الممارسة الموسيقية على وجه الخصوص لأن الحدود الجغرافية التي وضعها المستعمر لا تمثّل سوى حدود وهمية لأنّ مبدأ الاتصال الثقافي لدى الغرب يعتمد على سياسة ثقافية مخطط لها سلفاً، لكننا نؤكد في هذا السياق على الفكرة الأساسية والمبدئية التي تنطلق منها العملية الإبداعية وهي المحافظة على التراث