الدكتور علي عبد الظاهر الضيف
اعتلى المنصة بكل ثبات وتفرس وجوه الحاضرين ثم أخذ نفسا عميقا وانطلق قائلا :
“نشأت طفلا فقيرا جدا وعملت حتى عمر 18 عاما في جمع القمامة يدويا لأنفق على تعليمي. لم تمحُ الرئاسة آثار ورائحة القمامة من يدي وهذا أكثر ما أفخر به الآن .
إن كوريا كانت خامس أفقر دوله في العالم من خمسين عاما .. اليوم هي خامس أكبر اقتصاد العالم بسبب الاهتمام والتركيز على التعليم، فنحن لا نملك أية موارد في كوريا غير البشر. خمس سنوات جعلت من هيونداى امبراطورية صناعية عملاقة.
ثم أصبحت رئيسا لكوريا كأصغر رئيس دولة في العالم، وأمضيت على كرسي الرئاسة خمس سنوات جعلت من كوريا الجنوبية خامس اقتصاد في العالم ولها قوه سياسيه واقتصادية عملاقة بلا أية موارد طبيعية تذكر.. !”
هذا ملخص المحاضرة التي ألقاها لي ميونج باك، رئيس كوريا الجنوبية السابق
قبل أعوام في جامعة السلطان قابوس كضيف رئيسٍ في المنتدى الاقتصادي الآسيوي
والذي ترك الرئاسة، ويعمل الآن موظفا في هيئة علوم البيئة براتب 2200 دولار شهريا!
هذا هو جامع القمامة الشريف أعظم زبال في العالم الذي صنع المعجزة التي لم يفعلها أصحاب أعلى المراكز العلمية والشهادات والنياشين بل يفتخر بأنه كان زبالا !
ومن الشرق إلى أقصى الغرب نسافر إلى النصف الثاني من الكرة الأرضية لنجد ملحمة ثانية سطرها الزبال العظيم (لولا دي سلفيا) الرئيس البرازيلي السابق .
نحن الآن في ثمانينات القرن العشرين، وقد مرت البرازيل بأزمة اقتصادية طاحنة ووقعت تحت براثن صندوق النقد الدولي، حيث رزحت تحت عبء الديون، ووصلت الى حافة الانهيار، ونحن نعرف الشروط القاسية التي يضعها ذلك الصندوق سيء السمعة، وكلها تعمل في غير صالح المواطن الفقير من إلزام الحكومات بتسريح العمال وتقليل أجور العاملين، والغاء الدعم الحكومي، ما أدى إلى تفشي البطالة وانهيار العملة .
وأصبح غالبية الشعب البرازيلي يرزح تحت خط الفقر، وصارت البرازيل الدولة الأكثر فسادا والأكبر في معدل الجريمة، وتعاطي المخدرات، والمديونية في العالم .
ثم حدث أكبر تغير في حياة البرازيل بحدوث المعجزة الكبرى وهي انتخاب البرازيليين رئيسهم (لولا دا سيلفا) في عام 2003 ذلك الذي نشأ فقيرا ، واضطر لكي ينفق على نفسه وأمه إلي أن يعمل عامل نظافة وجامعا للقمامة ، وبسبب سياسته الرشيدة، وفي غضون أربع سنوات (مدة رئاسية واحدة) سدَّد كل مديونية صندوق النق ، بل أن الصندوق اقترض من البرازيل 14 مليار دولار اثناء الأزمة العالمية في 2008
أي بعد 5 سنين فقط من حكم “لولا دا سيلفا” !
المدهش في الأمر أن هذا الصندوق كان يريد أن يشهر “إفلاس البرازيل” في عام 2002، ورفض إقراضها حتى تسدد فوائد القروض .
نحن أمام ظاهرتين مثيرتين للعجب والإعجاب في آن واحد، وقد أجهدت ذهني كثيرا في تفسير تأثير ذلك القاسم المشترك بينهما على حدوث المعجزتين، فما علاقة العمل بجمع القمامة وهذه الطفرة الهائلة والانتقال من الثرى الى الثريا !
بحثت في كتب علم النفس ،نبشت كتب التاريخ؛ كي أرى حوادث مشابهة تلقي بظلالها على أي تفسير لذلك الشيء العجيب فلم أجد !
هل هي مصادفة ؟
هل العمل بمهنة الزبالين يثير الحاسة الجمالية فيجعل الشخص محبا للتنظيف وتجميل المكان بتنحية كل ما يلوثه ؟
هل ما عاناه كل منهما سبب في تحدي كل الصعوبات والإصرار على المضي قدما في الرسالة الإصلاحية ؟
هل هي كراهية كل عفن لذلك صنعوا من الفسيخ شربات ؟!
علامات الاستفهام لا تنتهي، وكل تصبُّ في محيط اللاشيء واللا تفسير!
وأيا كان الأمر فهو ينحو إلى أن يكون درسا يتعلم منه كل متعال يخجل من نشأته البسيطة كل مغرور يتنصل من أهله، وكل من سار مختالا فخورا وهو خاو من داخله، ونشأته تتنافى تماما مع الصورة التي يزينها لنفسه أمام الجميع، ويخجل من الإعلان عنها.
لن أربط الموضوع بالناحية السياسية فقد أعياني البحث عن الربط بين مهنتهما وما وصل إليه شعبهما فلم أجد إلا أخلاقيات مواطن متواضع، وفيُّ، يحب بلاده، فأعطاها بإخلاص ولم يطلب من وظيفته إلا الخير لبلاده .
هذان العظيمان تصالحا مع أنفسهما فصارا أسطورتين يفخر بهما الملايين وحفرا اسمهما في التاريخ بأحرف من نور، وقد نسي العالم ما كان من مهنتهما، وتحدثت عنهما الإنجازات المضيئة .
وأنت أيها النكرة لم تبلغ ما بلغه سائق في قصرهما الرئاسي تتناسى أصلك، وتهرب منه لتشمخ بأنفك، ناظرا من أعلى إلى من تراه دونك، وهو أحيانا أفضل من ملء الأرض بمثلك :
إذا امتلأت كف اللئيم من الغنى تمايل إعجابا وقال أنا أنا
ولكن كريم الأصل كالغصن كلما … تحمًّل أثمارا تواضع وانحنى.
قد يرى البعض تاريخه عورة، رغم أنه عانى الكثير، ولكنه لا يتحمل أن يعايره أحدهم بماضيه الفقير، مع أن نقطة الخجل نفسها في حقيقتها فخر لك بكونك رجلا عصاميا بدأت من لا شيء، ولكن عقدة النقص لدى البعض تأبى إلا أن تداري ما يعتقده معرَّة وهو مصدر فخر له ولأسرته !
فما العيب في أن نشأت فقيرا بمهنة شريفة؟ فالأنبياء رعوا الغنم ثم قادوا الأمم .
ومن المحنة تأتي المنحة لو كان الحمقى يعقلون .